آخر الاخبار

الرئيسيةكتابات احمد عثمانسجناء الماء

احمد عثمان
احمد عثمان
عدد المشاهدات : 5,469   
سجناء الماء


محمود ياسين، كاتب صحفي يتحرك داخله الإنسان النبيل ليدافع عن العالم، هكذا يشعر ياسين الذي قدم من ريف إب يوماَ إلى صنعاء، ليصطدم بالحرف ومهنة الكلمة التي اختطفته بدون وعد سابق، ليجد نفسه هناك يجبره الحبر على الابتعاد عن الطيش وسر الكلمة على سلوك الطرق النبيلة، حتى على شاكلة (الشنفرة) ونبل الصعاليك، حيث المروءة وحقوق الإنسان وشرف الكلمة هي الغالبة.


في صنعاء المكتظة بالكبار ساسة ومثقفين وتجار، ومن كل صنف ونوع، وجد محمود نفسه فجأة وحيداً والمدينة خلت من كل شيء سوى عدد قليل من زملائه لا يتجاوزون أصابع اليد كآخر ما تبقي من الإنسانية التي تعرضت لزلزال جرف كل شيء في صنعاء بدون مقدمات منطقية. 


محمود ياسين و رضية المتوكل و عبد الرشيد الفقيه وآخرون، وجدوا أنفسهم مجبرين علي أن يدافعوا عن بهاء صنعاء وخصوبتها وجمالها الأخضر، بعد أن أصبحت مقفرة جدباء لا (ونيس فيها ولا أنيس)، لا طير يطير في ' سمائها ولا بلبل يغرد على (الطيرمانات) الرفيعة، أو صنعانية تترنم في بكور الايام الجميلة و (غبش) الفجر المدلل.
 لقد أكل و (قحط) الحوثي كل شيء ينمو أو ينطق بالجمال، ومسح كل مظاهر الخضرة، وجفف منابع الماء، وعمل تماماً مثل دودة (الجدم) في الزرع، أو الجراد المنتشر! ساعة واحدة تكفي لتحيل قاع الله ووديان الزرع الى قاعاً صفصفاً.


 طوفان أصاب حركة التمدن والحضارة في صنعاء، ليتوقف روح الانسان فيها وفرحته لصالح الكأبة والرصاص والبنادق التي لا تعلم لماذا (تتبندق)، أو لماذا تقتل!


فقط كل ما لديها أن القتل جهاد في سبيل الله، وتفجير المنازل قربة الي الله، وإسكات الأفراح وقتل الاطفال بالمدافع والحصار قتل لإسرائيل و من أخلاق أهل الجنة !!


أخذ محمود ورضية وزملاءهم يتحركون ضد تيار الطوفان في صنعاء، لعلهم يجدون نبع خير هنا أو يفجرون عين ماء تدل على أن الإنسانية مازالت تتنفس في صنعاء عاصمة الفن والسياسة، فأخذوا يعتصمون أمام المعسكرات وأقسام الشرطة، كعمليات فدائية قد لا ينجو صاحبها من الموت من أجل نساء اعتقلن لأنهن نفذن اعتصاماً احتجاجاً على اختطاف وإخفاء قريب. 


واعتصام آخر من أجل المطالبة بالإفراج عن (محمد قحطان)، وقحطان هو النموذج النبي الملهم لمحمود وأمثاله، ولم يدر في خلدهم بأن قامة بحجم "قحطان" سيُعتقل من أجل رأيه السياسي، وهو صاحب نضال طويل ومتميز من أجل الإنسان وحريته، وقضى جل عمره في ترسيخ ثقافة التوافق والدولة المدنية والشراكة الوطنية، وأسس مع "جارالله عمر" أكبر منجز سياسي وثقافي واجتماعي جاد، مشروع "اللقاء المشترك" الذي قلب توجهات الرياح في اليمن رأسا على عقب لصالح سفينة الوطن التائهة بفعل الأمواج والربان الرجيم.


لقد أصيب وزملائه بالذهول من تسيد الهمجبة والصمت المصاحب، وهو يري أمامه اليمني لا يحرم من حق الكلمة والمساواة وخيار الحكم وحسب، بل يحرم من شربة ماء وكسرة خبز، وتجند إمكانيات الدولة للحصار ومنع الماء والزبادي والحبة البيض والاسبرين لتموت مدينة كاملة جوعاً و عطشا.


هؤلاء الكتاب المثاليون يرون في الكلمة قاعدة عسكرية، وفي أقلامهم مدافع فتاكة لا تنفد ذخيرتها، وكما يعلن قادة الجيوش عن المعركة الفاصلة، أعلن "محمود" عن مسيرة الماء تنطلق من "إب" لفك الحصار عن تعز.


هي لن تغني شيئاً بالمنظور المادي، لكنها زلزلت كيان البغي وأرعبتهم، لذا فقد أعلنوا حالة الطواري ليهجموا على فندق بمدينة "إب"، ويقبضوا على "محمود ياسين" وثلاثين من زملاءه متلبسين بجريمة تهريب الماء لمدينتهم العطشي "تعز"، وإخوانهم المتلهفين لقطرة مواساة وغيث من دعم أخوي يبقي صمودهم منتعشاً، وأملهم مزدهراً بالثقة بشعب كريم ومستقبل واعد خالي من الحصار والليل وخرافة بالية تتبول على الرؤوس، ومياه الشرب للقتل تارةً وللتبرك تارةً اخرى !


محمود وزملائه الآن في السجن من أجل الدفاع عن حق الشعب في شربة ماء، مثله مثل (مانديلا) و (غاندي)
من هو "مانديلا" و"غاندي" يقول محمود وهو ينفخ سيجارته في الهواء، "ناس ضباحى مثلي لم يسكتوا على باطل أو يتخلوا عن مظلوم .... بأصواتهم دافعوا عن شعوبهم وأنا أملك صوت وقلم وأنين شعب".


الفارق أن المحتل عند "غاندي"، والفصل العنصري في حالة "مانديلا"، لم يتجرؤوا ولم يفكروا بمنع مياه الشرب على مدينة أو قرية أو أسرة، والله فعلتها يا محمود، أصبحت "مانديلا" وسجين الماء في القرن الواحد والعشرين.