آخر الاخبار

الرئيسيةكتابات مجيب الحميديإلى أنصار وخصوم ثورة فبراير..

مجيب الحميدي
مجيب الحميدي
عدد المشاهدات : 166   
إلى أنصار وخصوم ثورة فبراير..

يصل الشعب إلى ذروة التنوير السياسي حين يؤمن بقدرته على الفعل وصناعة المستقبل، ويخرج للدفاع عن الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية، ويقدم الشهداء في سبيل هذه الأهداف السامية. وهذه الذروة من التنوير قد لا تتكرر في حياة جيل واحد إلا مرة واحدة، يشعر فيها الشعب بقدرته على التغيير ويبدي استعداده للتضحية قبل أن يحطمه اليأس. هذه اللحظة يجب أن تمجد وتخلد، لأنها عنوان شرف هذا الشعب، ولأنها الإثبات الأبرز على أنه شعب له كرامة ويستحق الحرية، وإدانة هذه اللحظة الفبرايرية التي تجسدت في تاريخ شعبنا اليمني المعاصر هي إدانة لأقدس أحلام هذا الشعب في الحرية والكرامة، إدانة لأحلامنا في العيش في دولة تحترم المواطن وتضمن له حقوقه، ويؤكد فيها الشعب على حقه بأن يحكم نفسه بنفسه.
وهذه اللحظة قد لا تتكرر في حياة جيل واحد، يشير بعض فلاسفة الاجتماع السياسي، ومنهم جان جاك رسو، أن الثورات العظيمة قد يعقبها اضطرابات أمنية وحروب داخلية تؤدي إلى فقدان الشعوب شعورها بكرامتها، وعندما تفقد الشعوب كرامتها فإنها تبحث عن سيد يحكمها ولا تبحث عن محرر، وقد يحتاج الشعب حينها إلى خمسين سنة من العبودية حتى يستعيد ثقته في نفسه وإحساسه بكرامته، ويناضل مرة أخرى من أجل الحرية، أو يتشكل جيل جديد لا يعاني من تأثير لقاح إكساب اليأس. لكل ذلك، لا ينبغي أن نسمح بإدانة ذروة النضج السياسي لشعبنا اليمني. فالزمن الفبرايري هو الزمن الذي أحس فيه الشعب اليمني بقدرته على الفعل، وقام بتوجيه هذه القدرة للنضال من أجل الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية والديمقراطية والحكم الرشيد.
لقد جاءت ثورة فبراير بعد إغلاق جميع نوافذ الإصلاح السياسي، وبعد أن رفض رئيس الحزب الحاكم نفسه مخرجات الحوار مع المعارضة التي وافقت عليها قيادات حزبه. بدلاً من المضي في طريق الحلول السياسية، قرر الحاكم العسكري علي صالح حينها إعلان تعديلات دستورية تتيح له البقاء في السلطة مدى الحياة، ليبدأ أنصاره في البرلمان حملة "قلع العدّاد" بدلاً من "تصفير العدّاد"، مغلقًا بذلك كل الأبواب أمام أي تغيير سلمي.
إن من يحمّلون ثورة فبراير مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع اليوم يتجاهلون حقيقة أن الثورة لم تكن خيارًا عبثيًا، بل كانت ردًا اضطراريًا على انسداد أفق الإصلاح السياسي. وعلى جميع خصوم الثورة اليوم: أن يسألوا أنفسهم: هل وقفوا مرة واحدة بجدية مع مطالب الإصلاح السياسي من داخل النظام نفسه؟ وهل رفضوا كل محاولات تجنيب البلاد هذا المسار العاصف؟ هل خرجوا يومًا في مظاهرة سلمية ضد الفساد أو ضد تعديل الدستور لصالح الحكم الفردي؟ هل فعلوا ذلك أم كانوا دائمًا مدافعين ومساهمين في سياسة سد أبواب الإصلاح من داخل النظام، وكانوا مجرد رجع صدى لما يريده الحاكم بأمره، لكنهم اليوم يرفعون أصواتهم ضد نتائج وضع هم أنفسهم كانوا أحد أهم أسبابه.
لقد ساهم الكثير من هؤلاء الخصوم في إيصال البلاد إلى ما هي عليه اليوم في الجنوب والشمال. فقد رفضوا أي مقترحات لإصلاح مسار الوحدة في الجنوب، وعبثوا سياسيًا بملف الحرب على الحوثيين، مدفوعين برغبة استئثارية في تصفية حسابات داخلية مع مكونات الجيش الوطني، أكثر من سعيهم لكسر تمرد الحوثيين فعليًا. ولهذا استخدموا ورقة الحروب العبثية لابتزاز دول الجوار، وإعادة تشكيل المشهد العسكري والسياسي في سياق خدمة مشروع التوريث. وعندما جاءت لحظة الحقيقة، وقفت الوحدات العسكرية الخاضعة لعلي صالح مع الانقلاب الحوثي مدفوعة بغريزة انتقامية عمياء، ولم تستبين الرشد أو يستبين بعضها إلا في ضحى الثاني من ديسمبر 2017. وهو ما مهد الطريق لصعود الحوثيين كقوة انقلابية أوصلتنا إلى ما نحن عليه، ومصلحتنا اليوم جميعًا تقتضي توجيه سهام النقد تجاه هذه الحركة الكهنوتية ومشروعها السلالي الفاشي المعادي لقيم الجمهورية والديمقراطية والحكم الرشيد.
لقد أدى تحويل النظام الجمهوري إلى نظام عائلي، وتفريغ الوحدة من جوهرها الديمقراطي الذي قامت عليه، إلى منح مبررات لعودة نظام الإمامة الكهنوتية المتسترة بغطاء ديني. وهنا تحضرني عبارة المفكر الراحل حسن حنفي: "طالما هناك غياب لنظرية العقد الاجتماعي، حتماً سيظل هناك عنف سياسي، فستخرج دوماً طوائف لديها نظرية شرعية للحكم وشرعية تاريخية ودينية أمام أنظمة مهترئة". إن النظام الجمهوري ماكينة حديثة يجب أن يوضع كل مسمار فيها في موضعه الصحيح، وإذا ما حاول أحدهم تحويله إلى نظام عائلي، فإن من الطبيعي أن نشاهد التماسات كهربائية واضطرابات لن تتوقف إلا بالتصحيح. لهذا سقطت كل الأنظمة الجمهورية التي تحولت إلى جمهوريات عائلية، وبقي نظام واحد في حالة بقاء سريري وبكلفة مرتفعة بعد وصول أعداد القتلى واللاجئين إلى الملايين، وتدمير واسع للبنية التحتية، ثم ماذا حدث بعد ذلك كله؟ هل استطاع نظام الأسد أن يحافظ على بقائه بالسير عكس اتجاه حركة التاريخ؟ لقد تهاوى النظام بعد كلفة مرتفعة، وأنقلب السحر على الساحر، فقد أراد أعداء التغيير أن تكون كلفة التغيير المرتفعة في سوريا دليلًا على إدانة كفاح الشعب من أجل الحرية، ولكن التاريخ يحمّل الآن نظام الأسد فاتورة كل هذا الخراب فهو الذي حوّل النظام الجمهوري إلى نظام عائلي. وحاول الاستعصاء على جميع محاولات الإصلاح السياسي، حتى أثبت أنه لم يعد صالحًا للبقاء، وهو الذي خلال سنوات الثورة رفض تقديم أي تنازل وأصر على استخدام العنف واستعان بروسيا وإيران والمليشيات العراقية واللبنانية للقضاء على ثورة شعبه، واستخدم البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والشبيحة ومختلف وسائل التعذيب. ربما قبل شهرين فقط من كتابة هذا المقال كان بعض أنصار نظام صالح يوسوسون لبعضهم أنهم لو كانوا ساروا على منوال بشار في التصفية العنيفة للثورة كانوا سيكتبون لنظامهم النجاة كما نجا الأسد!
وعموما في ذكرى ثورة 11 فبراير المجيدة، لا أستسيغ الحديث الرومانسي عن نجاح الثورة في تحقيق أهدافها، ولا الحديث العدمي عن فشلها. الواقع أن ثورات الربيع العربي أعقبها خريف طويل من الثورات المضادة، نجحت في تفكيك الكتلة الوطنية للتغيير، وبعث الصراعات الأيديولوجية والطائفية، وولّدت قابلية مؤقتة لعودة الفرعنة السياسية، وإعادة ترويج الثنائية اللعينة: "الطغيان أو الطوفان". لكن التجربة السورية أثبتت أن فشل الجولة الأولى من الربيع العربي لا يعد إدانة لمشروع الثورة من أجل الحرية عندما تُغلق أبواب الإصلاح، ولا يُعد نجاح الثورات المضادة مفخرة لسدنة الاستبداد. فالمعركة مع منظومة الفساد والاستبداد ما تزال طويلة، ولا خيارات أمامنا: غير ربيع الديمقراطية والحكم الرشيد، أو التيه في الأرض خمسين عامًا جديدة من خريف القمع العسكري والفساد السياسي، حتى نفهم أنه لا بديل عن الديمقراطية وإن طال زمن القمع.
وفي هذا السياق، من الإنصاف أن نذكّر بعض أنصار فبراير أن مسؤولية النضال لا تنتهي عند الاستفادة الشخصية من الثورة، بل تمتد إلى الالتزام بتحقيق أهدافها. كثيرون غادروا البلاد واختاروا حياة مستقرة في الخارج، بينما بقيت الجماهير تدفع ثمن التغيير الذي دافعت عنه. من حق الجماهير أن تُسائل هؤلاء، وأن تطالبهم بمواصلة النضال، فاستمرار الجماهير في تبني فبراير يقتضي بقاء الثوار إلى جوارهم، يعانون ما يعانيه الناس، ويناضلون معهم. ومع ذلك، يبقى التقدير لمن فرضت عليهم الظروف القاهرة مغادرة الوطن، لكنهم لم يتوقفوا عن تسخير إمكاناتهم الفكرية والمادية والدبلوماسية لمناصرة الثورة، والعمل من أجل تحقيق أهدافها.
ومن الضروري أيضًا الاعتراف بأن خطاب ثورة فبراير تضمن الكثير من مفردات خطاب الكراهية التي لا تحتاج إليها الثورة السلمية. فالثورة تواجه الرصاص بالورود، ولا ينبغي أن تحمل الوردة وهي تلعن وتشتم، لأن حمل الوردة يعني أنك تقول للآخر إنك تحمل له الخير والمحبة. مع ذلك، لا يمكن تجاهل ظروف بعض ضحايا النظام، خاصة أقارب الشهداء والجرحى والمهمشين الذين عانوا من الظلم والقمع، لكن الثورة تحتاج إلى خطاب جامع يعبر عن قيمها السامية.
هذه الرسالة ليست دفاعًا عن فبراير كغاية، بل هي دعوة للجميع، أنصارًا وخصومًا، لمراجعة الماضي والتفكير في المستقبل. لا ينبغي أن يظل بعض خصوم الثورة أسرى للخطاب العدائي تجاهها، في وقت أصبحوا فيه اليوم في صف الشعب في مواجهة الحوثيين. فإدانة ثورة فبراير اليوم، بعد كل هذه السنوات، لا يستفيد منها سوى الحوثيين، الذين يسعون لإقناع الجميع بأن الثورة كانت خطيئة، وأن العودة إلى الماضي هي الحل. إن لم نتعلم من أخطائنا ونستوعب دروس التاريخ، فسنظل ندور في حلقات مفرغة من الأزمات والانقلابات والصراعات التي لا نهاية لها. إن الإنصاف يقتضي أن نضع الأمور في سياقها الصحيح، فثورة فبراير لم تكن سبب الأزمة، بل كانت محاولة لإنقاذ اليمن من مسار خاطئ، وحين فُرضت عليها المواجهة، استُنزفت ولم تُمنح الفرصة لاستكمال مشروعها. واليوم، بعد كل ما جرى، حان الوقت للجميع ليطرحوا سؤال المستقبل بجدية: كيف نؤسس لنظام يضمن الحقوق والحريات، ويمنع الاستبداد بكل أشكاله، حتى لا نجد أنفسنا بعد سنوات نكرر المآسي نفسها، ونسأل: كيف وصلنا إلى هنا؟