يتضمن حديث: «أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ». اشارة إلى ما تميز به ذلك الإنسان من تربية وتنشئة على مكارم الاخلاق، عبر عنها الحديث بِرِقَّة الافئدة ولين القلوب، وذلك ينعكس بشكل عَمَلي فيما تُتيح رقة الفؤاد من محبّة للقريب وتسامح مع البعيد، وما يوفره لين القلوب من قابليّة لسماع الآخر والتفاعل معه بتحرر من العصبية والتحجر، وكل ما يحجب العقول ويشوش القلوب، ويَحُول دون الأخذ بما هو قائم على منطق الحجة والبرهان.
وإذا كان الإيمان هو: التصديق العميق بالفكرة، التي تتحول في حياة الإنسان إلى ممارسة وسلوك، فإن الحكمة تعني حُسن التصرف في إدارة شؤون الحياة ومواجهة المعضلات، فالإيمان - إذاً - يمثل الجانب الفكري النظري، والحكمة تمثل الجانب العملي التطبيقي.
ولا شك أن تلك المكرمة جاءت نتيجة لتربية وتعليم حظي بها ذلك الإنسان، وتجربة حضارية خاضها، وليست تكويناً طبيعيا فيه، يظل يتغنى بها ويُفاخر دون أن يؤدي حقها فيعكسها كسلوك حي في واقع الحياة؛ لهذا يتعين على الأحفاد أن يحافظوا على القِيَم والأخلاق التي خلَّدت ذكر الأجداد، وإن يتولوا يستبدل قوما غيرهم .. تلك سنة الله في الحياة ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
واليوم تواجه «الحِكمة اليمانية» جملة من التحديات التي تَضَعُها على مفترق طرق، فإما أن يُثبت اليمانيون أن حكمتهم لا تزال قادرةً على العبور بهم إلى بر الأمان، فيعيدوا حساباتهم ويرتوا أولوياتهم ويكفوا عن الشغب والمشاكسة، ويردوا لليمن اعتبارها فتعود كما كانت: {بلْدِةٌ طَيّبةٌ وَرَبٌ غَفُورٌ}.. وإما أن يصروا على التنافر والحروب والمماحكات ويمضون في سبيل: {رَبَّنا باعِد بَيْنَ أسْفَاِرنا}، مما سيبدل جنة سعادتهم شقاء، ويمزقهم بين الأمم كل ممزق، ويظلون أحاديث الأخبار العاجلة على كل قناة وفي كل صحيفة.
فقديماً {كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} .. وقبل ذلك: {جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ. فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
ولكي نعود إلى كَنَف الحِكْمَة ولا نتحَّول إلى طواغيت، فإنه يتعين علينا أن نسمع وجهات نظر جميع شركاءنا في الوطن، وننصت إلى آرائهم بلطف وإنصاف؛ لأن الحوار والتفاهم يُشَكّل جسراً للتواصل بين الفُرقاء، ويهيئ الأرضية التي يقوم عليها وطنٌ آمن مزدهر، تشيده جهود ابنائه ويحميه حبهم ويحرسه وعيهم.
أما الاستمرار في تحشيد الناس وعسكرة البلاد وتحويلها إلى ساحة حرب تُقرع طبولها في مختلف الأرجاء، فليس من الحكمة ولا من الإيمان، ولا صلة له برقة الأفئدة ولين القلوب؛ بل من السقوط نحو هاوية الموت والخراب، ولن يستطيع أحد بوسائل الدمار أن يؤسس لمستقبل مستقر، لأن الثارات والآلام ستكون وِطَاءَه وغِطَاءه، وليس في شيء مما يتطلع إليه المحارب المعتدي على أمته ومجتمعه ما يجعل له ميزة أو فرصة في الحكم والتَّربع على عرش البلاد.