آخر الاخبار

الرئيسيةكتابات مروان الغفوريأبطال التفكك العظيم

مروان الغفوري
مروان الغفوري
عدد المشاهدات : 6,592   
أبطال التفكك العظيم




التحق الحوثيون بثورة فبراير، وهناك نصبوا مجموعة من الخيام اشتهرت فيما بعد بكونها بؤرة للقلق والصراع. مع بروز خيام الحوثي، واتساعها، شهدت ساحة التغيير في صنعاء حالة من اللااستقرار، بخلاف الساحات الأخرى في الحديدة وإب والمكلا وتعز. 


وكان "شباب الصمود" الحوثيون في ساحة التغيير مجرّد الجزء البارز من جبل الجليد. كان جسم الحوثيين الضخم في مكان آخر، يقاتل ويحتل المحافظات ويخوض حروباً مستخدماً كل الوسائل القتالية المتعارف عليها. وبحسب تقرير شامل أصدرته "منظمة وثاق للتوجه المدني" فإن الجزء الأكبر من قائمة انتهاكات الحوثيين حدثت في العام 2011. أي عندما كان الشعب منصرفاً للثورة. في ذلك العام، بحسب التقرير، قتل الحوثيون في مديرية كُشَر لوحدها، حجّة، 124 مواطناً يمنياً "في ظروف غير قتالية" كما تقول المنظمة.

 

العام 2011 كان العام الذي انطلقت فيه حروب الحوثي خارج حدود صعدة بصورة منظمة وواسعة. في ذلك العام خاض الحوثي حروباً جديدة في حجّة والجوف. ومع إعلان جزء من الجيش اليمني انضمامه للثورة، وخروج مناطق عسكرية واسعة عن سيطرة النظام، سارع الحوثي إلى استكمال سيطرته على صعدة باحتلال المدينة. قال الحوثيون إن احتلالهم لمدينة صعدة جاء انتصاراً لشهداء مجزرة الكرامة.


بدأت دورة الاستسلام والتسليم بين جيش صالح والحوثيين بصورة علنية فجّة عقب انشقاق جزء من الجيش عنّه.

 

كان شباب الصمود في ساحة التغيير أشبه بمفاوضي جماعة الحوثي في مراحل الحوار الوطني العديدة: خطاب في النوايا الحسنة، وحركة على الأرض منفصلة كلّياً عن كل ما يقال على طاولات الحوار.

 

مع نهاية 2011 كان أكثر من مليون يمني قد فقدوا وظائفهم بحسب تقرير محلي. وفي نوفمبر من نفس العام كان الحوثيون يخوضون حرباً ثقيلة في عاهم ومستبا وكشر من محافظة حجّة، المديريات التي انصرف نسبة كبيرة من أبنائها إلى ساحات التغيير. وكان على أبناء تلك المديريات أن يغادروا الساحات، وأن يعودوا لحراسة أهلهم أولاً. كما لو أن حروب الحوثي كانت تعمل، أيضاً، لتفريغ ساحات الثورة من مناهضي النظام.

 

في ديسمبر من العام نفسه، عام الثورة 2011، خاضت ميليشيات الحوثي حرباً واسعة في الجوف محرزة نتائج عسكرية كبيرة على الأرض. بالعودة إلى التقارير الإخبارية المحليّة التي كانت تنشر آنئذ فقد حصل الحوثيون على عتاد ثقيل، أكثر من مرّة، من قبل الجيش المؤيد لصالح. وفي نهاية المطاف خاضواً حرباً واسعة ضد التشكيلات العسكرية المتواجدة في الجوف، وكانت تابعة للجزء من الجيش المنشق عن نظام صالح.

 

كانت دورة الاستلام والتسليم بين جيش صالح والحوثيين قد أخذت مساراً متصاعداً في العام 2011. وكان وزير دفاعه محمد ناصر أحد عرّابي تلك العمليات. وبمرور السنين سيكون ذلك الجنرال هو العسكري الذي فتح لهم بوابات صنعاء.

 

ارتفع خطاب شباب الصمود في صنعاء ضد جهتين: حزب الإصلاح، والجزء المنشق من الجيش. وكان متناغماً مع خطاب نظام صالح. لم يكن صالح يهاجم الإصلاح منطلقاً من رؤية علمانيّة تمجّد الفرد الحُر، والإنسان الكامل. بل لاعتقاده أن كتلة الإصلاح الضخمة تحدثُ فرقاً عندما تميل إلى الجهة الأخرى، ومن الأفضل لها ولصالح أن لا تفعل. الخطاب الحوثي المعادي للإصلاح، في سنة الثورة الأولى، كان دافعه آخر: فالمواجهة الشرسة التي خاضتها قبائل حجّة ضد الآلة العسكرية الحوثية، والهزائم القاسية في عاهم وكشر، فهِمت ميدانياً لدى الحوثي بوصفها مقاومة إصلاحية بحتة.

 

استكمل الحوثي هيمنته على صعدة بصورة شاملة في عام الثورة، 2011. ثم غرق في جبال حجّة والجوف وبدا مصرّاً على اقتحام المحافظتين وإلحاقهما بصعدة وحرف سفيان.

 

ظهرت جزيرتان داخل ساحة التغيير في صنعاء: شباب الصمود، وشباب الثورة. وكان شباب الصمود، الحوثيون، يبحثون في الثورة عن الإصلاح وعلي محسن الأحمر غير معنيين بالحركة الكليّة التي تحاول الثورة إنجازها، بالتحوّل الكبير قيد الإنجاز. لا يزال الخطاب الحوثي، حتى الساعة، يخادع بالقول إن الثورة اليمنية وئدت عندما أيد جزء من الجيش ثورة فبراير. كانوا يبحثون عن خصومهم، متجاهلين كل المدوّنة الضخمة التي كتبتها الثورة.

 

وفي تعز، بالمقابل، كان شباب الثورة يقدّمون خطاباً ما بعد حداثي حول المدينة الحديثة والمجتمع المفتوح. بينما انشغل شباب الصمود في صنعاء في البحث عن الجنرال المنشق عن نظام صالح. وهو جنرال قبلي أوقف حروبه ضد الحوثيين في العام 2009، ومنذ ذلك الحين بقي الحوثيون فقط يخوضون الحروب.

 

في 11 فبراير، 2011، خرج الشعب اليمني لأول مرّة في تاريخه الحديث ضد النظام الحاكم. لم يكن النظام ديكتاتورياً بقدر كونه قبليّاً متخلفاً غير قادر على إنقاذ نفسه. وكانت اليمن قد تشكلت من دائرتين: دائرة صغيرة خضراء من ذوي امتيازات النفوذ والثروة، يشكل الهاشميون مركزها، ودائرة كبيرة سوداء من الجوع والشتات. وبحسب تقرير لوزارة التخطيط 2010 فقد تجاوز عدد اليمنيين في الخارج 7 ملايين نسمة. وهي أعلى نسبة شتات في تاريخ اليمنيين لم تحدث قبلاً.

 

لم يخرج الحوثيون ضد ذلك النظام وفقاً للرؤية اليمنية الجديدة، رؤية الثورة. لا يمانع الحوثيون من استخدام كل الأدوات التي تقبل العمل تحت سلطة أميرهم. كان بالنسبة لهم نظاماً "يقوده عيال شوارع" طبقاً لمقولتهم الكبيرة. يبدي الحوثيون استعداداً لتمجيد عيال الشوارع الذين يقولون لهم نعم بلهجتهم، على أن يتذكروا دائماً أنهم عيال شوارع.

 

جلس صالح إلى دائرة قريبة وقال لهم إنه سيمنح الحوثيين السلاح، والدعم اللوجيستي. قرّر بصرامة: "وإن كان ذلك ضد الأهداف التي ناضلت من أجلها في سبتمبر وفي حصار السبعين، لكن اللي باعك بيع أبوه". أما الحوثيون فتجاهلوا تماماً حقيقة أن نظام صالح، المستهدف من ثورة 2011، أصبح جزءً من نظامهم. وأن النظام الحوثي الراهن هو خليط من نظام الإمام يحيى حميد الدين، ونظام علي عبد الله صالح.

 

وأن هذه التوليفة القاتلة ليست فقط خطراً على المستقبل بل على الماضي أيضاً.


وفي خريف 2014 كان حسن زيد، المثقف الذي يتنقل بين الجمهورية والملكية بحسب نوع التذكرة خاصته، يحتفي بمرافعة حوثية تقول "إن الإبقاء على صالح وعدم المساس به يأتي متساوقاً مع احترام الحوثيين لتعهداتهم، وعلى وجه الخصوص موقفهم من مشروع العدالة الانتقالية كأبرز عناوين الحوار الوطني".

 

ثم رأى الحوثيون بمرور الأيام أنه من الأفضل أن يوضع الوزير المنوط به صياغة ذلك المشروع تحت الإقامة الجبرية.


استخدم الحوثيون ثورة 2011 كقنبلة دخانية أخفت مدرّعاتهم. كما سيستخدمون الحوار الوطني لاقتحام عمران، واتفاق السلم والشراكة لإسقاط العاصمة. وفي الأسبوع المنصرم كتب إعلامي حوثي معروف عن نوايا الحركة المسلّحة الذهاب لتحرير الجنوب من اللجان الشعبية الجنوبية "التي عاثت فسادا". 


قبل أسبوعين تساءل الكاتب عارف أبو حاتم عن النسخة الخاصة التي يمتلكها الحوثيون من اتفاق السلم والشراكة. فالاتفاق الذي يشيرون إليه على الدوام لا علاقة له، بالمرّة، بما يقومون به على الدوام. وفي حقيقة الأمر فليس لدى الحوثيين نسخة خاصة من كل اتفاق وحسب، بل من الثورة أيضاً، ومن علي محسن الأحمر، ومن حميد الأحمر.

 

ولم يحدث أن سمع اليمنيّون كلمة 11 فبراير على لسان عبد الملك الحوثي. بدلاً عن ذلك استبدل العام 2011، حيث شهد العالم مع نهايته 30 ساحة اعتصام عظيمة، بالعام 2014، بساحة اعتصام واحدة، مدجّجة بالسلاح.

 

في العام 2011 كان الثوّار في اليمن، في الداخل والخارج، يتحدّثون عشرات اللهجات. وكان ذلك كافياً للقول إنها ثورة كل اليمنيين. وعندما انتهى خريف 2014 وحلّ الشتاء كانت ثورة الحوثي تملك لهجة واحدة، وحسب. كما لو أنها بدلة من الميري.

 

لا يوجد من سبب يفسّر تجاهل الخطاب الحوثي لثورة 11 فبراير واختفاءها من خطابات عبد الملك الحوثي سوى أن تلك الثورة لم تكن تعنيه، وأنها استنفدت أغراضها بالنسبة له.

 

كان الحوثيون الجهة الأبرز التي عارضت المبادرة الخليجية. قالوا إنهم ضد الحصانة لصالح ونظامه، كما تقترح المبادرة. وعندما سيطروا على صنعاء منحوه الشرَف، والحماية، وتلقوا التعليمات والنصائح منه، وفتحوا القصر الجمهوري لأبنائه مرّة أخرى. 


كان موقفهم من المبادرة الخليجية واحداً من مناوراتهم. وكان من الأفضل، بالنسبة لهم، أن تراوح الأمور في اليمن بين اللاسلم واللاحرب، في مرحلة مستدامة من "التفكك العظيم The Great Unraveling" إذا استخدمنا المصطلح الذي صاغه روجير كوهين، الكاتب المعروف، في خريف 2014.

 

في "التفكك العظيم" سيستكمل الحوثي عدّته واقتحاماته. وبالنسبة له كانت المبادرة الخليجية عملية غير جيّدة لأن من شأنها أن تخلق قدراً من الاستقرار وتلفت الأنظار إلى جيوشه التي كانت تخوض ـ إبّان الثورة ـ حرباً في أربع محافظات. 


في زمن ما بعد المبادرة، تصوّر الحوثي، ستبدو حروبه عدواناً على الجميع. لقد جاءت في وقت غير مناسب، بالمرّة. هكذا فكّر. كان لا بد من رفضها، والقول إن الثورة وئدت للمرّة الثانية. ثم هبّت الريح الحوثية العاتية بعد ثلاثة أعوام واقتلعت ليس المبادرة وحسب بل الثورة كلّياً وأعادت تدوير نظام صالح.

 

فقبل ثورة 2011 كان الحوثي جزءً أصيلاً من نظام صالح، وكان شقيق الحوثي برلمانيّاً مؤتمرياً، وكان تنظيم الشباب المؤمن يتبع، مالياً، رئاسة الجمهورية باعتراف صالح نفسه. بعد سقوط العاصمة في يد الحوثي أصبح نظام صالح جزءً من نظام الحوثي، وكان عمّار صالح أحد الأدلاء الذين قادوا عملية السيطرة على صنعاء بحسب رواية مسؤولين رفيعين في الداخلية.

 

بالنسبة لعبد الملك الحوثي فقد كانت ثورة 2011 شرّاً مستطيراً. وحتى في المرّات القليلة عندما ورد اسم ثورة 2011 في الخطاب الإعلامي الحوثي السابق ل 21 سبتمبر فقد تجاهلوا كلّياً الرقم 11 فبراير. ذلك التاريخ يلقي بالثورة إلى المساء الذي خرج فيه شباب تعّز لأول مرّة. ولا تحتفظ ذاكرة الحوثي، الملَكِيّة، بقصص جيّدة للشبان الذين غادروا تعِز ودخلوا صنعاء في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

 

الميليشيا التي نصبت بضعة خيام في صنعاء وذهبت تخوض حروباً في أربع محافظات، غير آبهة بخطاب الثورة ولا مدونتها، هي ميليشيا لا تخص اليمنيين في شيء. وليست أكثر من "مستعمر وطني" بتعبير البردّوني.

 

أما تلك الميليشيا التي تشطب ثورة 11 فبراير من مدونة خطابها كلّياً مستعيضة عنها بليلة اقتحامها للعاصفة وترويعها لملايين اليمنيين، ثم تصعد في اتجاه وصف ما قامت به بثورة الشعب اليمني العظيم، هي ميليشيا نجحت أخيراً في استبدال الشعب اليمني العظيم بالشعب اليمني العظيم.

 

فبعد أن استبدل الحوثي الثورة بالثورة، والثوار بالثوار، والحوار بالحوار، والشراكة بالشراكة، والجنرال بالجنرال ذهب بعيداً واستبدل الشعب اليمني العظيم بالشعب اليمني العظيم.

 

وقبلاً كنّا نتساءل عن ماهية الحوار الوطني الذي يحيل إليه عبد الملك الحوثي أفعاله التي تناقضه كلّياً. ثم أصبحنا نتساءل عن طبيعة النسخة التي يملكها الحوثي من اتفاق السلم والشراكة، والتي تتناقض بصورة شاملة مع النسخة التي لدينا. ولم يمض سوى وقت قصير حتى صرنا نتساءل عن ذلك الشعب العظيم الذي يقصده الحوثي في خطابه ولا نعلم عنه شيئاً.

 

وعندما كنتُ أكتب عن الحركة الحوثية باعتبارها ظاهرة استعمارية إحلالية لم أكن أتوقع أن تكتمل صورتها على هذه الدرجة الحرفية من المطابقة حد إحلالها الشعب العظيم محل الشعب العظيم، وكل أشيائها محل أشياء الآخرين، مستعيرة حتى الأسماء والملامح.

 

وفي الأزمنة الحديثة لا يوجد ما يهدد وجود اليمنيين، كمجتمع ودولة وتاريخ، أسوأ من تلك الحركة.