جُبِلَ الإنسان على السعي لما يُسعده ويُشبع رَغباته، وإنما يختلف الناس في تَقْدير ما يُحقق تلك السعادة والرّغبات؛ ويأتي ذلك نتيجة تعدد ثقافاتهم وتنوع بيئاتهم التربوية والاجتماعية، التي ينتج عنها اختلافُ تصوراتهم للسعادة واللذة، وما يُوصل إليها في العاجل والآجل.
فما منا من أحد إلا وهو يسعى لتحقيق سعادة نفسه بِدَفع الضرر عنها أو جلب النَّفع لها، سواء كان ذلك بما هو حِسّي أو بما هو معنوي، فمن يؤدي الصلاة أو ينفق من ماله في الصدقات والهبات يبتغي بذلك أجرا ومثوبة، وإلا لما صلى وما أنفق،وسواء كان جَلْب النّفع ودفع الضر يتعلق به أو بمن يعُز عليه ويسعد بسعادَته ويستاء لمعاناته، وذلك ليس مذموماً؛ فعليه طُبع البشر وبسببه يتنافسون، {إِنَّالْأَبْرَارَلَفِينَعِيمٍ، عَلَىالْأَرَائِكِيَنْظُرُونَ، تَعْرِفُفِيوُجُوهِهِمْنَضْرَةَالنَّعِيمِ، يُسْقَوْنَمِنْرَحِيقٍمَخْتُومٍخِتَامُهُمِسْكٌ،وَفِيذَلِكَفَلْيَتَنَافَسِالْمُتَنَافِسُونَ}.
فكلٌ يتحرك ويجري حسب الدَّوافع والتوجيهات التي يتم توجيهه وتعبئته بها، فالذي يصدق أنه سينال السعادة بأي أمر فإنه سيسعى لتحقيقه ويناضل من أجله بقدر تصديقه بتَحَقُّقه وثقته بقدوةته ومعلمه.
حتى ذلك الذي يعرّض نفسه وأهله وماله للمخاطر؛ إنما يسعى في ذلك لتحقيق سعادته هو، وكذلك الذي يشارك في معارك القتال إنما يذهب ليَنال التمكين بالمال أو الجاه أو المنصب أو الشهرة، أو يحصل على ما وُصف له من نعيم الآخرة وما فيها من اللذات والمُتعة بالحياة الأبدية والسعادة التي لا نتقطع.
وفي ضوء ذلك يرى البعض أن من حقه أن يستمتع بما توفر له من الصحة والمال والشباب والطمأنينة والمنصب عاجلاً، ويرجو أن يستمر ذلك على الدوام إلى عالم الآخرة، {قُلْمَنْحَرَّمَزِينَةَاللَّهِالَّتِيأَخْرَجَلِعِبَادِهِوَالطَّيِّبَاتِمِنَالرِّزْقِقُلْهِيَلِلَّذِينَآمَنُوافِيالْحَيَاةِالدُّنْيَاخَالِصَةًيَوْمَالْقِيَامَةِكَذَلِكَنُفَصِّلُالْآيَاتِلِقَوْمٍيَعْلَمُونَ}.
فلا يُزايدنّ أحدٌ على أحد في كفاحه؛ إذ الجميع يسعون - بفطرتهم - لتحقيق ذواتهم، حتى ذلك الذي يتصور أنه يفعل كل شيء من أجل الآخرين، إنما يفعله لكونه يجد فيه مُتعته التي يحقق بها ذاته وما يعشق من دوره في الحياة، فالإنسان لا يفعل ما يكره إلا في ظل الموازنة والمقارنة بمكروهات أخرى، فيفعل ما هو أدنى ضرراً له دفعاً لما هو أسوأ عليه.
وعلى هذا يكون معيار الحُسن والقُبح في سلوك الإنسان مرتبط بالنِّسبيَّة فيما يَنْتُج عن تصرفاته من نفع أو ضُر، له ولغيره من البشر والأرض ومستقبل الأجيال.
إن فرط أنانية الإنسان هي ما يجعله يلوّن السّعادة والشقاء في الحياة كل الحياة بلون سعادته وشقائه، دون التفات لما يَتَطلع إليه الآخرون من السّعادة وما قد يلحق بهم من الشّقاء، فلا يرى مع سعادته سعادةً لأحد، ولا يرف له جفن أو يخفق له قلب من عذابات الآخرين، ولا ما نع لديه من أن يهلك الناس ما دم ذلك سيكون في سبيل طموحاته وآماله.. ومن هنا يتَخَلَّق الصِّراع وينشأ التَّباين وتستفحل الخصومات وتشتد ضراوتها حتى تهتك حُرمة الحياة ويتحوّل العيش في ظل الأنانية إلى عذاب مُقيم.
ومن المعالجات لكبح جماح الأنانية والتخفيف من حماقات وطيش المهووسين بجنون العظمة:
1. أن يتفهم كلٌ منا تلك الحقائق التي ألمحنا إليها، حتى لا نحول ذواتنا إلى أصنام، ويعمل المتغلبون على إلزام الناس بالدوران حول هواجسهم ورغباتهم.
2. لا يفرض أحد أنانيّته على الخلق فيُدمر سعادتهم في سبيل أوهامه وطموحاته ومخاوفه.
3. يَتَذكر كل منا أن غيره يرى كثيراً من الأمور من غير النَّافذة التي يُطلّ منها، وفي ضوء ذلك يقدر ما يراه صوابا وخطأًوما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يبقى.