"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً..".
من جوامع كلم الحبيب المصطفى، يشرق في وجه الفجر درساً من نور لحظة البزوغ وبدء اليقظة، نداءٌ ملائكيٌ يتدفق مع أنفاس الصبح أنواراً تؤاخي الشمس في الحياة.
هل تأملته؟ هل تأملته متدلياً من شرفة السماء عناقيد ضياء؟ هل سمعته من فم الصباح نداء انتباهة فارقة لخارج للتو من الظلمة إلى النور؟ الله ما أجمله!!.
قبل أن تنهض الشهوات ويقوم السوق، قبل انطلاق الأهواء يوقظ القلب كي يستفيق فكم من مصبحٍ وقلبه لليل مرقد.
نداءٌ قدسي يوطن الروح على مواكبة الشمس ضياءً وبعثاً، دعوة لمشاكلة الصباحات في الانبثاق السخي، لكأنه يقول: كن كريماً كالإشراق، كن كرنفال حياة، كن هذا الفجر، هذا النور.
يستحثك كرم الإله ساعة الميلاد هذه لأن تكون جزءاً من مد النور.
لا يمسك إلا مطفأ بصر وبصيرة، لا يبخل إلا معتمٌ ينتمي للعتمة ويكنز لأجل العفن.
الممسك ليس أخا الفجر في النداوة والانبساط، ليس أخا للشمس في البشر والجمال والجود بأسباب الوجود.
الممسك متلَف الروح، عامل إتلاف، توقظه الشمس لينهض على مهرجان عطاء رباني حافل ليكون فجراً آخر في قلب الكون المتدافع.
الممسك كائن لا يرى ذاته في نور الحق ولا يعرف الشكر كهزة امتلاء إذ تشرق الروح وتنير الحواس ويجري النور في العروق ليتدفق الإنسان الفجر، ليقوم الخليفة المنير ليسير ذكراً وشكراً "..وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا".
الإمساك توجه معاكسٌ جحود، سلوكٌ يناقض دفق الصباحات السخية الباعثة على منتهى البذل، منتهى العطاء، منتهى الحب والمنتهى منكل نبيل وجميل.
هذه ساعة يَقْصر فيها البذل ولا يرى فيها لمنفق بياض يد.
ما أنت والشمس؟ ما أنت والصبح؟
هذه ساعة تحرض على مطلق العطاء ومطلق الشعور بالضآلة والتقزم.
الشروق انطلاق من أسر الحلكة، الصباحات بهاء، أنداء، أفراح بهجات وحيوات متفتقة، ألقٌ، غناء، ارتعاشات أمل، العصافير تطير، الفراشات تطير، والأزاهير الندية تملأ الدنيا عبير.
لا مكان هنا لبخيل متعفن في شحه وهوى نفسه، لا مكان لأسير أهواءه وشهواته المخلدة إلى الأرض.
من السوء أن تمسك وأنت مشمول بهذا الفيض الإلهي اللا محدود من النعم والهبات الدالة على عظيم تفضيل وإكرام يستدعيان منتهى الوفاء.
من المقيت أن لا ترى إلا ذاتك في صباح يريك أنك الكون كله.
من سوء أدبك مع المعطي قبضك العطية وأنت منها ساعة بسطٍ كهذه، انحشارك الأناني داخل ذاتك وحدود جسدك، مجافاة لروح الصباح فيك حيث التفتح قرين البزوغ.
في هذا الفضاء المفتوح ينفتح "الحديث" على ما لا يحد من المعاني السنية، تنبجس منه عيونٌ وعيون تراه كما لو أنه شمس أخرى ينساب ضوءها إلى أعماقك القصية هناك حيث يثوي النور والظلام، الخير والشر، الحب والأثرة.
ليس المال وحده هدف النداء وإلا ما سر هذا الاقتران في النداء بين الإنفاق والإصباح؟ أنت هنا تنهض بعد ساعات من السكن والسكون بعد نوم مجددٍ للطاقة بعد راحة محرضة على استئناف عملٍ منير.
هي دعوة لإنفاق يتجاوز الماديات، إنفاق الجهد، المشاعر، الأحاسيس، الابتسام، كل وجوه البذل والعطاء ومنتهاهاً إنفاق الروح.
للمنفق في روحه من الفجر نصيب خلفاً ومكافأة، نور عقل، انشراح صدر، ابتهاج، بشاشة، سكينة، اطمئنان، ندىً واخضرار.
للمنفق من الصباح قسمة الدنيا والآخرة حيث "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم".
والإمساك لا ينحصر على الشيء كما يلوح في هذا الأفق.
ثمة إمساك يطال القلب، ثمة شح يشل العزم.
أن تمسك يعني أن تكاثر العَدَم ْ، أن تقف عكس إرادة المنعم عند النعمة بحيث لا تراه، بحيث تحجبك عنه وعنك وللمسك من العتمة نصيب في روحه، تلف أعصاب، إنهاك روح، مخاوف متكدسة.
"لا سؤدد مع البخل" لا مجد، لا حياة.
الله...كم في الأوقات من النفائس الكريمة التي لا يراها المطفئون ، البخلاء أسارى ما يجمعون، دعاة الجمود والهمود والتكديس في كل شيء، وكم في القرآن وهدي الحبيب من اقتران بين النور والعطاء والبخل والظلمة ما يغري بفتوح لا تحد.