حين يفكر أحدنا أن حريته رهن باحتفاظه بعلاقة جيدة مع أحد عرّابي المليشيات وملمعي جرائمها البشعة بحق الشعب فإن ذلك يهوِّن عليه من مرارة البقاء في المنفى أو التشرد في أطراف البلاد.
إذ يبدو أن على الإنسان السوي وخصوصاً صاحب الرأي أو المنخرط في الشأن العام، كي يحتفظ بعلاقة جيدة مع هذه الكائنات اللزجة، كلفة أعلى، على الصعيد النفسي أقصد، من أن يحتمل عذابات المنفى أو مرارة السجن.
فبقاؤك في مدينة يحكمها مجوعة من الأوباش الذين لا يتورعون عن مداهمة منزلك في أي لحظة ليعتقلوك دون حاجة إلى أن يوضحوا لك السبب أو يحصلوا ولو شكلياً على أمر من جهة قضائية بالقبض عليك، فذلك يعني أصلاً أنك في زنزانة كبيرة تقاس مساحتها بالكيلومترات وتتيح لك الحركة أكثر من رفاقك المحتجزين في زنزانات مساحتها بالأمتار.
وفي المجمل فإن المليشيات التي اختطفت الدولة وأبقت مؤسساتها رهناً بأمزجة عصابة من الغجر القادمين من الجبال ومعهم الأذيال ممن عاشوا بأجسادهم في التجمعات المدنية بينما بقيت أرواحهم وعقولهم أسيرة ذات الكهف، قد اختطفت بهذا الفعل حقنا في العيش بأمان، وحقنا في ممارسة حياتنا اليومية كما يفعل البشر في كل ربوع المعمورة، وخطفت حقنا في أن نحصل على الضوء والماء والطاقة والغذاء والدواء.
وتجاوزت ذلك إلى اختطاف تفاصيل حياة أطفالنا ولحظات المرح التي يفترض أن يحصلوا عليها وجعلتهم يعيشون في معسكر مجبرين على الإكتفاء بالضروريات وفرضت عليهم جدول حياة يومية ينتج جيلاً غير سوي لأنه لم يعش حياته كما ينبغي.
أغرقتنا مغامرات المليشيات بتفاصيل الكوابيس اليومية التي تداهمنا في حياتنا الواقعية وفي الفضاءات الافتراضية التي تحولت إلى سرادقات عزاء مفتوحة ومناحات لا تتوقف وهذا ما نلقاه يومياً على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وبدلاً من تبادل النكات والتعليقات الساخرة على سلطات تقصر في توفير أشياء كمالية للمواطنين أو مناقشة مضمون البرامج التي تقدمها القنوات الفضائية، فإنك تفتح صفحات التواصل الإجتماعي لتجد منشورات من قبيل فلان أصيب وفلان قتل وفلان اختطف وفلان اختفى لتعود بكمٍّ هائل من الأخبار التي تبعث على الكآبة وتقضي معظم وقتك في توزيع عبارات العزاء والمواساة والتطمينات لذوي الضحايا.
يخطفون الشخص دون أي سبب وحين يتوفر ضمين يتمكن من إطلاقه يريدون منا أن نشكر الخاطف والضمين الذي تدخل للإفراج عنه، ويريدون منا أن ننسى أن الضمين ذاته هو أحد الأدوات القذرة التي مهدت لسيطرة المليشيات على البلد وتبرر جرائمها اليومية وتمتدح القتلة والمجرمين وتقدمهم أبطالاً يواجهون العدوان الخارجي "الصهيوسعو أمريكي كولومبي".
أي استحمار واستهتار بالعقول يمارسه هؤلاء، فقد تسبب انغماسهم في هذه المعمعة في إفقادهم الشعور بالقدارة التي يمارسونها ويعتقدون أن من يراقبهم من خارج الدائرة يمكن مغالطته وتمرير دناءاتهم كأفعال نبيلة يستحقون عليها الشكر.
افرجوا عن المختطفين من النشطاء والصحفيين والسياسيين أيها القتلة، افرجوا عن مؤسسات الدولة التي سيطرتم عليها بقوة السلاح، أعيدوا سلاح الدولة إلى المخازن التي أخرجتموه منها، احملوا كل قذاراتكم وانصرفوا من المدن التي حولتموها إلى ساحات قتل مفتوحة في طول البلاد وعرضها، فأنتم أُسُّ البلاء وأساسه، وأنتم العدوان وأنتم سبب لكل جزيئة بارود طالت تراب وإنسان هذا البلد.
حتى الملايين من اليمنيين الذين يلوذون بالصمت ويتجرعون البؤس اليومي فإن صمتهم يهتف في وجوهكم: "ارحلوا أيها القتلة، ارحلوا أيها اللصوص، فقد عرفناكم على حقيقتكم ووصل شركم إلى كل بيت في اليمن".
لن تجدوا من يمتدحكم أو يدافع عنكم غير من قد تورطوا معكم من أذيال الإمامة وتجار الدم، ولن تجبرونا على تملقكم أو التعويل على شهامة مفترضة لديكم، فقد فاق قبحكم كل ما كان يمكن تصوره، وكما مارستم القهر والإذلال بحق الشعب اليمني فإن لدى اليمنيين من الصبر والجَلَد ما يمكنه من انتزاع حقه وتجريعكم من ذات الكأس، أما من تزجون بهم إلى المحارق اليوم فهم أبناء القبائل الذين انخدعوا بكم وضللتموهم وحين تضع الحرب أوزارها سيصحون على هول الكارثة التي تسببتم لهم بها.
وإن شئتم أن نتحدث عن العدوان الخارجي الحقيقي على اليمن فهو لا يزال مستمراً منذ داهمها يحيى ابن الحسين وعصاباته من القتلة وقطاع الطرق القادمين من الرس وطبرستان عام ٢٨٠ هجرية متمنطقاً فكرة الحق الإلهي في الحكم كسلاح دمار ما يزال يفتك باليمنيين أنصاراً وخصوماً.