يمثل قرار نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن نقلة نوعية في سير معركة السياسة والاقتصاد بين الشرعية والانقلاب، ولها ما بعدها من تداعياتٍ وتحديات، تتطلب جهوداً كبيرة وفارقة من الحكومة الشرعية التي ربما قد يكون توقيتها هذا في نقل البنك إلى عدن خدمة كبيرةً، قدّمتها من حيث لا تشعر للانقلابيين الذين يمرّون بظروف اقتصادية سيئة وخطيرة، خصوصاً في ما يتعلق ببند الرواتب الذي وصلوا إلى مرحلة العجز في الإيفاء به، وكان على وشك تفجير ثورة احتجاجية كبيرة في وجوههم.
في المقابل، لم تتّخذ خطوة كبيرة كهذه من الشرعية، بمعزل عن مشورة الإخوة في التحالف العربي الذين يدركون جيداً تداعيات هذه الخطوة في ما يتعلق بمالية الدولة التي تتطلب جهوداً جبارة للإيفاء بمتعهداتها، خصوصاً في ظل أوضاع تعطلت فيها معظم موارد الدولة، وسخرت في تمويل حروب الانقلابيين وشرائهم ولاءات قطاع كبير من أبناء الجيش والمجتمع.
الأهم موقف المؤسسات المالية الدولية، والتي لم تتحدّث بعد عن شيء، على الرغم من الضغوط الشديدة التي مارستها القوى الدولية، وخصوصاً سفراء الولايات المتحدة وبريطاينا وفرنسا، على الحكومة الشرعية، لثنيها عن الإقدام على نقل البنك المركزي إلى عدن، عاصمة اليمن المؤقتة، وأثمرت تلك الضغوط هدنة اقتصادية استمرت أكثر من عام، وهدفت إلى تحييد المؤسسات الاقتصادية للدولة وماليتها العامة، لكن الطرف الانقلابي لم يلتزم بهذه الهدنة، ومضى في تسخيره مقدّرات الدولة في تغذية حروبه العسكرية والاقتصادية ضد الشرعية وحلفائها وأنصارها.
أما وقد اتخذ قرار نقل البنك المركزي إلى عدن، فما هي التداعيات والمخاوف والتحديات، أيضاً، التي تقف أمام هذه الخطوة الاستراتيجية، في حال صدورها عن قرار استراتيجي، وليس تكتيكياً اتخذ في لحظة استرخاء من الحكومة الشرعية، وبمعزل عن مشورة الإخوة الخليجيين. وبعيداً عن الاستعدادات اللوجستية الكبيرة التي يجب أن تصاحب هذا القرار، وفي مقدمتها المسألة الأمنية، وتليها السيطرة التامة على كل مفاصل القرار في المناطق المحرّرة، خصوصاً بعد ما شهدته عدن من ارتباكاتٍ كبيرة على كل المستويات، وهي التي كان يُفترض أن تعود إليها الرئاسة والحكومة، لتزاول عملها من هناك.
استتباب الوضع الأمني والسياسي في عدن، ومن ثم كل الجنوب، هو من أهم تحديات خطوة نقل البنك المركزي إلى عدن، وعودة الحكومة إليها، والبدء بإدارة مؤسسات الدولة من عدن، وتوازي سير المعركة الإدارية والاقتصادية مع المعركة العسكرية في بقية المناطق والجبهات التي لا تزال فيها المعركة على أشدها ضد الانقلابيين، خصوصاً في جبهتي تعز وحزام العاصمة صنعاء.
لا تقل التحدّيات الأخرى أهمية عن التحدّي الأمني والسياسي في عدن التي يُراد لها أن تظل الحلقة الأضعف في مسألة نجاح الحكومة الشرعية من عدمها، ومنها تحدي الإيفاء بمتطلبات بنود الرواتب على امتداد الخريطة الجغرافية لليمن، بما في ذلك المناطق التي ما زالت تحت سيطرة الانقلابيين، وهو تحدٍّ كبير في ظل عدم انتظام الجانبين، الإداري واللوجستي للبنك المركزي الجديد في عدن، وفي ظل عدم وجود مؤشراتٍ تعاطي المؤسسات المالية الدولية مع هذا الإجراء الجديد للحكومة الشرعية.
عدا عن ذلك، وهذا جانب خطير ومهم أيضاً، مسألة الإيفاء الشهري بتغطية تكاليف الدين الخارجي للبلاد، (40 مليون دولار شهرياً)، عدا عن الدين الداخلي، والذي تجاوز تريليون ريال يمني، وكل هذه المبالغ ديون مستحقة وإلزامية شهرياً، يؤديها البنك المركزي، ما يعني مضاعفة التحديات والمسؤوليات على الحكومة الشرعية، والتي لا يمكن أن تتجاوزها من دون عودتها إلى عدن، وتحملها مسؤلياتها ووقوف الأشقاء الخليجيين معها، من خلال إيداع وديعة بنكية لضمان عدم انهيار ما تبقى من القيمة الشرائية للريال اليمني.
في الطرف الآخر، ثمّة مخاوف، أولها أن الخطوة بمثابة ترتيب مسبق سيخدم التيار الانفصالي في الجنوب، والذي لا يمكن له أن يمضي بخطوة انفصالية من دون وجود مثل هذه الترتيبات المالية التي ستضمن لهم رواتب موظفي الدولة في الجنوب، وكذا مرتبات للمضافين الجدد لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، وهم بالآلاف، وهي مرتبات عجزت السلطات المحلية هناك عن الإيفاء بها، وعجزت دون ذلك.
مثل هذا المخاوف، أيضاً على الرغم من وجاهتها، قد لا تسعف الظروف السياسية والأمنية أصحاب مثل هذا الخيال، والتوجه في ظل استمرار معركة استعادة الشرعية وعدم الحسم النهائي مع المشروع الإيراني في اليمن، خصوصاً في ما يتعلق بالموقف السعودي الحاسم في هذا الملف، والذي يعني لها كثيراً، في ما يتعلق بمعركتها مع إيران التي تسعى إلى ابتلاع اليمن، أو الاستفراد بجزء مهم منه. وفي الحالتين، هذا سيعني فشل المملكة العربية السعودية في اليمن، واستسلامها للمشروع الإيراني الذي تمثل مواجهته معركة وجودية مصيرية للجميع.
العربي الجديد