يستغرب كثير من الذين خدعوا بالخطاب «الثوري» الإيراني على مدى العقود الماضية من وصف الثورة الإيرانية بالطائفية. لا يتطابق ذلك الوصف مع الشعارات الثورية، والخطاب الإعلامي العالي، والصخب الجماهيري المقصود لإخفاء حقيقة الأهداف والتوجهات.
عدد كبير من الكتاب من منتسبي الليبرالية واليسار، والبعض من ذوي التوجهات المحسوبة على «الإسلام السياسي»، ناهيك عن جوقة كبيرة من القوميين من «عرب إيران»، سوف يصرون على «وصم» من يكشف سلوك طهران الطائفي بأنه مصاب بداء الطائفية، لا لشيء إلا لممارسة الترهيب النفسي لمنع الكتابة في هذا الموضوع الحساس بالنسبة للنظام في إيران.
غير أن هؤلاء لا يستطيعون مهما علا صوتهم أن ينكروا حقيقة أن الدستور الإيراني نفسه دستور يقوم أصلاً على أسس طائفية المحتوى والأداء. وللذين يجادلون، أو ربما ينكرون أن يكون في السلوك الإيراني توجه طائفي، يمكن الإحالة على الدستور الإيراني نفسه، وهو الدستور الوحيد في العالم – بالمناسبة – الذي ينص على «مذهب الدولة» تحديداً بعد النص على دينها، بل إن المذهب في الدستور الإيراني يصل إلى مرتبة أكثر قداسة من الدين نفسه، حسب نصوص الدستور التي تعطي لـ»المذهب الجعفري» فوق ما للإسلام نفسه.
معروف في العالم الإسلامي تحديداً أن ينص الدستور على دين الدولة، دون الإشارة للمذهب، وهو خلاف ما عليه الحال في إيران، التي ينص دستورها – بالإضافة إلى دين الدولة – على مذهبها كذلك. تقول «المادة 12» من الدستور الإيراني إن «المذهب الجعفري الإثني عشري يبقى إلى الأبد المذهب الرسمي لإيران، وغير قابل للتغيير»، دون النظر إلى وجود عشرات الملايين من السنة العرب والأكراد والبلوش وغيرهم، ممن تضيق عليهم إيران في أداء شعائرهم الدينية، وتمنعهم من بناء مسجد واحد لهم في العاصمة طهران، وهناك عدد ضخم من التقارير الحقوقية التي تدين إيران في هذا الخصوص.
تعالوا بنا إلى «المادة 115» التي تلزم الرئيس الإيراني بأن يكون مؤمناً على «المذهب الشيعي الجعفري»، واقرأوا كذلك «المادة 121» التي تلزم الرئيس الإيراني بأن يؤدي القسم التالي لكي يتولى مهام منصبه: «أقسم بالله أن أكون حامياً للمذهب الرسمي للبلاد». وهذه إشارة إلى أن «المذهب الجعفري الإثني عشري» في إيران فوق الدين، الذي هو الإسلام حسب الدستور الإيراني.
وفي إشارة طائفية واضحة تشير «المادة 13» من الدستور الإيراني إلى أن «الإيرانيين الزرادشت، واليهود والمسيحيين هم الأقليات الدينية التي يحق لها وحدها حرية ممارسة شعائرها الدينية»، مع إغفال واضح لذكر «المسلمين السنة».
ومع تلك النصوص الدستورية الواضحة، يصعب على الليبراليين واليساريين والقوميين من «عرب إيران»، أن يدافعوا عن «ليبرالية» نظام ثيوقراطي قائم على أسس طائفية يصعب إغفالها، إلا إذا كان هذا الدفاع من قبيل محاولات حجب شمس الحقيقة بغربال الوهم كما يقال. وإذا كانت نصوص الدستور الإيراني تؤسس لـ»الدولة الثيوقراطية الطائفية»، فإنه يصعب على المتابع أن يستنتج أن يكون السلوك السياسي الإيراني مخالفاً للدستور الذي وضع مبادئه الراحل الخميني، الذي قال مرة عن نفسه إنه فوق الدستور.
بقي أن نشير إلى مادة أخرى من مواد الدستور الإيراني، وهي واحدة من أهم المواد التي يشملها هذا الدستور، وهي المادة التي تنص على «وجوب تصدير الثورة الإسلامية».
هذه المادة المهمة هي الترجمة العملية لطائفية الدستور في إيران، إذ أن تجليات هذه المادة على مستوى السلوك السياسي، تكشف عن حقيقة مراد واضع الدستور من مصطلح «الثورة الإسلامية».
وهنا يمكن رصد ملحوظتين: الأولى ان «تصدير الثورة الإسلامية» على مستوى الأداء توجه إلى «الحدود الغربية» من إيران، دون أن تكون هناك جهود مماثلة لـ»تصدير الثورة الإسلامية» خارج «الحدود الشرقية» الإيرانية. وهنا يمكن تسجيل حقيقة أن المستهدف بـ»الثورة الإسلامية» هم العرب الذين يقعون على الحدود الغربية لإيران، حيث تحاول إيران التمدد غرباً في العراق ولبنان وسوريا والخليج واليمن، ولها محاولات للتمدد في الجزائر وتونس والمغرب والسودان، ولعل الأحداث الأخيرة التي أدت إلى مواجهات بين الشيعة والجيش في نيجيريا تشير إلى محاولات إيران اختراق الدول الأفريقية لمحاولة تطويق العرب في بعدهم الأفريقي.
لم تأت محاولات التمدد تحت مبدأ «تصدير الثورة الإسلامية» غرباً، إلا لإضعاف العرب والسيطرة على مواردهم وأرضهم، حيث نجحت إيران نجاحاً مرحلياً في هذه اللحظات من تاريخ المنطقة.
ويظل عدم التمدد على الحدود الشرقية لإيران دليلاً على حقيقة النوايا الإيرانية من خلال تصدير ثورتها وراء الحدود الغربية لا الشرقية، مع أن هناك دولاً إسلامية على حدود إيران الشرقية والشمالية كان حقها أن تنال شيئاً من «بركات الثورة» التي بشر بها الإيرانيون.
والملحوظة الثانية أن المفهوم الإيراني لتصدير الثورة يعني تصديرها بمعناها الطائفي، أي تصدير «النسخة الخمينية» من «التشيع السياسي» ممثلة بـ»ولاية الفقيه». «الثورة الإسلامية» في إيران إذن هي ثورة بلون طائفي واحد هو «التشيع»، وتستهدف مجموعة قومية معينة هم «العرب»، وذلك يكفي لكشف ماهية وأهداف هذه الثورة.
وتبقى قضية وسائل إيران في تصدير الثورة، وهذا يقودنا إلى القنابل النووية الإيرانية الحقيقية التي دأبت إيران على دفنها بعيداً عن الأفهام تحت طبقات كثيفة من غبار الشعارات الرنانة والصراخ الإعلامي، والدعاية الجماهيرية التي حاولت أن تخفي بها حقيقة توجهها الطائفي في البلاد العربية.
القنابل الإيرانية النووية هي المليشيات الطائفية التي غرستها إيران في تربة الأرض العربية خلال العقود الماضية، من أجل ان تشن لها حربها بالوكالة ضد الدول العربية، ولتفتيت النسيج الاجتماعي العربي، وليقاتل «العربي الشيعي» أخاه «العربي السني» لصالح المد القومي الفارسي الذي لم يعد يأبه لظهور نواياه التي خطط لها منذ عقود.
المليشيات الطائفية التي أنشأتها إيران في منطقتنا بدأ بحزب الله في لبنان ومروراً بأنصار الله في اليمن، وليس انتهاء بالحشد الشعبي في العراق، هي الترجمة الحرفية لمبدأ «تصدير الثورة الإسلامية» المنصوص عليه في الدستور الإيراني.
وعلى الرغم من محاولات طهران تمويه اللون الطائفي لهذه المليشيات إلا أن تلك المحاولات تهاوت مع الرغبة الإيرانية الجامحة في تمكين جماعاتها الطائفية دون غيرها من الجماعات، ولهذا تساقطت سراعاً شعارات تمويهية من مثل معسكر المقاومة والممانعة، والقوى القومية واليسارية المختلفة التي كانت واجهات لمضامين طائفية مرتبطة بإيران.
الفرصة مواتية في الوقت الراهن لإيران، لكن الموجات المقبلة من الشرق تتكسر سريعاً كما عودنا تاريخ المنطقة، وأول الأشياء الجيدة في هذا الخصوص هو سقوط الأقنعة التي خدعت بها إيران الكثير من العرب، أما ما سيأتي بعد ذلك فسيكون تحصيلاً لحاصل «سقوط القناع الإيراني»، وهذا ما هو مطلوب، وهذا ما سيكون بحسب مسارات التاريخ.
*مقال للكاتب في صحيفة «القدس العربي»