تغير الوضع الجيوسياسي والإستراتيجي في المنطقة الممتدة من شواطئ لبنان على البحر الأبيض المتوسط وحتى شواطئ اليمن على بحر العرب والبحر الأحمر، ومن الجولان المحتل وحتى طول سواحل الخليج العربي ومنها بالطبع الحدود العراقية الإيرانية، لصالح القوة الإيرانية المتنامية، سواء من الناحية الإيديولوجية أو من ناحية النفوذ الأمني والتعبوي لجميع الدول الموجودة ضمن هذا المجال الحيوي، بغض النظر عن حجم استقلالها وقوة حكوماتها.
ورغم معرفة حكومات دول كبيرة في المنطقة -مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- بخطورة التمدد الإيراني العلني والمباشر ضمن محيط أمنها القومي، فإنها لم تحرك كثيرا من إستراتيجياتها الساكنة لمواجهة هذا الأمر، بل إن ما يزيد الطين بلة هو أنها أوجدت لنفسها أعداء جددا كان من أبرزهم تنظيم الإخوان المسلمين (بشكل مطلق) وتنظيم الدولة الإسلامية، ناهيك عن تنظيمات وقوى أخرى معظمها إسلامي.
وعلى هذا الأساس؛ فإن الدول -التي ما زالت دولا في حقيقة الأمر- اعتبرت في مواقع معينة الوجود الإيراني عاملا مساعدا للقضاء على القوى الإسلامية وقواعدها الشعبية، كما حصل في اليمن على سبيل المثال، ويحصل أيضا في العراق. وقد قال لي أحد المنظرين في موضوع الأمن القومي لإحدى الدول الخليجية الكبرى إن سبب عدم دعم القوى المناهضة للتدخل الإيراني في العراق هو الخشية من أن تكون هذه القوى مرتبطة بشكل أو بآخر بتنظيم الإخوان المسلمين!
إن قصور الفكر الإستراتيجي لدول المنطقة -وتحديدا دول الخليج العربي- يجعل من موضوع التمدد الإيراني مثارا لجدل كبير بين أوساط شعوب المنطقة، خاصة في الوقت الذي أصبحت فيه التنظيمات الموالية لإيران تمارس التخريب والقتل في دول عربية كانت إلى وقت قريب تمثّل بوابات منيعة أمام المشروع الإيراني الكبير -الذي أسسه الخميني منذ أكثر من 35 عاما- كالعراق واليمن والبحرين والإمارات وغيرها، تضاف إليها أيضا بوابات الإعلام التي جندتها إيران لصالح نشر الفكر العقائدي المذهبي الطائفي في الدول العربية دون أي رد فعل عربي خليجي تحديدا.
وتشير المصادر إلى وجود أكثر من 40 قناة فضائية تبث عبر القمرين نايل سات وعرب سات، وأن هناك حملات إعلامية منظمة للتأثير على النشء الجديد من خلال إنتاج وتسويق برامج وأفلام ومواد ترفيهية وتعليمية وتراثية عبر هذه القنوات، بينما أغلقت الدول الخليجية قنوات عربية إسلامية كثيرة كانت تقدم جرعات معقولة من المضادات الحيوية الفكرية لمواجهة تلك القنوات الإيرانية!
ما هي مآلات الموقف الخليجي إذن من موضوع التمدد الإيراني حول مناطق أمنها القومي؟ ولماذا تبدي دول الخليج هذا الضعف الإستراتيجي في وقت يمكن لها فيه أن تكون القوة الموازنة للنفوذ الإيراني في الإقليم؟ وهل هناك رؤية تخفي وراءها قوة خليجية تضمن لها السيادة وللمنطقة الأمن، وتحفظ لشعوبها خياراتها العقائدية الممتدة لمئات السنين؟
هذه أسئلة تدور بين مختلف مستويات الشعب في الخليج العربي وفي العراق وسوريا ولبنان والأردن ولاحقا اليمن وغيرها، ولا أعتقد أن أحدا يملك الإجابة العلمية والفعلية عن هذه التساؤلات. وربما يكون لموضوع مآلات الموقف الخليجي الصورة الأعتم، بحسب رؤية وتحليل الكثير من مراكز البحوث، وذلك بسبب هشاشة الأوضاع الاجتماعية والمعيشية والسياسية لدول المنطقة، وتخبط بعض قياداتها -كما ذكرنا- في موضوع العقدة الإخوانية، مما جعلهم ينظرون ويخططون في حدود ضيقة جدا، تاركين المستقبل لتحدده الإدارة الإيرانية، سواء قصدوا هذا الأمر أم لم يقصدوه.
إن دول الخليج العربي مطالبة -أكثر من أي وقت مضى- بأن يكون لها مشروع مؤسَّس له بشكل صحيح، يحفظ في الحد الأدنى أمنها القومي في صيغة مجلس التعاون الخليجي مجتمعا وليس في صيغة الدول بشكل فردي، خاصة بعد أن وضعت طهران يدها على صنعاء وبدأت تحاصر هذا المجلس مجتمعا (ربما باستثناء سلطنة عمان) من حدوده الشمالية وحتى أقصى جنوبه على حدود اليمن، وأعتقد أن الإدارة السعودية الجديدة ربما تكون لديها رؤية جديدة أكثر حزما مع المشروع الإيراني، ولديها الإمكانية لبناء مشروع مواجه إذا مكنتها بقية دول الخليج العربي من هذا الأمر بأعلى المستويات.
دولة الإمارات العربية المتحدة تمثل نموذجا آخر للعلاقة بين المشروع الإيراني والموقف الخليجي، فأبو ظبي مثلا تناست احتلال إيران لجزرها الثلاث، وانتشار عشرات التنظيمات الإيرانية الإرهابية داخل أراضيها، لتضع جل اهتمامها وهواجسها في موضوع تنظيم الإخوان المسلمين ليس في الإمارات فحسب بل في كل مكان من العالم. وهو لعمري موضوع بالغ الغرابة، وتحسس مفرط من خطر ربما يكون موجودا بشكل أو بآخر مقابل خطر حقيقي بدأ يحيط بها من خاصرتها ومحيطها الأمني!
إن أسلوب عمل المخابرات الإيرانية لتنفيذ مشروع الخميني مبني على أساس بناء علاقات خيطية مع الأقليات الشيعية في كل الدول العربية وغير العربية، ومن هنا فإن الخطر الإيراني موجود دائما، ويجب أن يكون هو الأول في كل دول الخليج العربي باستثناء قطر ربما وإلى حد ما.
وقد تعاظمت شبكة هذه الخيوط بعد الانشغال الانفعالي الكبير لقيادات هذه الدول بالمتغيرات السياسية في مصر خلال حقبة الرئيس محمد مرسي، ثم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وباتت أكثر وضوحا الآن حقيقة المخطط الإيراني لتشكيل الهلال الممتد من باكستان وحتى لبنان ثم جنوبا إلى اليمن، من خلال تأجيج حركة الاضطرابات للأقليات الشيعية في دول الخليج العربي، ومن ثم تنصيب نفسها أبا روحيا وضامنا فعليا لهذه الأقليات.
إن دول الخليج العربي بحاجة فعلية إلى خطة عمل إستراتيجية واضحة للتعاطي مع التمدد الإيراني على أسس وطنية وقومية وإعلامية واثقة ومحددة، تواجه من خلالها المشروع الإيراني بكامله ومن ضمنه كل الأطراف المتحالفة مع طهران.
وعليهم ألا ينسوا أبدا ما صرح به العميد باقر زاده رئيس دائرة المفقودين في الحرب العراقية الإيرانية بالقوات المسلحة الإيرانية -خلال مؤتمر صحفي عُقد بالأحواز العربية، وبحضور كبار القادة والضباط من الصف الأول في الحرس الإيراني- حين قال: "علينا أن نرص صفوفنا، وأن نكون أقوى من أعدائنا الذين يتدخلون في شؤوننا الداخلية لشق الصف الوطني بين أبناء الشعب الإيراني".
والشأن الداخلي والصف الوطني هنا يقصد به كل شيعة المنطقة، والأخطر في تصريحات زاده هو قوله إن "خيارات الدول الخليجية أصبحت تتقلص في مواجهتها للمشروع الإيراني، ولم يعد في العراق اليوم لا صدام حسين، ولا ابن لادن في أفغانستان، وتستطيع إيران أن تصل إلى أماكن لا يتصورها زعماء العرب، بسبب تأثيرها على الشعوب الإسلامية الثائرة (شيعة الدول) ضد الظلم في العالم الإسلامي (الحكام السنّة)".