يقال في الأدبيات السياسية إن المثقفين هم أول ضحايا الأنظمة الديكتاتورية وأساليبها في قمع حرية الكلمة وتكميم الأفواه، وتقييد الإبداع بالخطوط الحمراء والعيون الأكثر حمرة.. لكن ومع ذلك فمن العدل أن يقال أيضا إن شرائح عديدة من المثقفين يكونون سببا قويا في انحراف مسيرة الأوطان نحو الحرية والعدالة، وغواية الحاكم والأنظمة ودفعها نحو مزيد من القمع والتيه!
من المهم الإشارة إلى أن مصطلح "المثقف" لا يقصد به فقط الأدباء والشعراء والمفكرون؛ لكنه يشمل أيضا الساسة والفقهاء أو علماء الدين الذين تجمعهم مع الآخرين صفة القدرة على التأثير الجماهيري، وكونهم بمثابة الفنار الذي يضيء - أو هكذا يفترض- للتائهين طريق السير، ويجيب عن أسئلتهم الحائرة ويرشدهم إلى طريق السلامة!
خيانة المثقفين لرسالتهم السامية ليست غريبة ولا هي جديدة؛ فقد عاب القرآن الكريم في نهاية سورة الشعراء على الشعراء (مثقفي ذلك العصر) خيانتهم لدورهم، وحدد ثلاثة معايير لهذه الخيانة: أنهم يقولون ما لا يفعلون، وأنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يصيرون سببا في إفساد الناس وتحويلهم إلى غثاء يتبعون صوت كل ناعق! وهو تعريف دقيق للمثقف الخائن نظن أنه يتفق من حيث المعنى مع تعريفين؛ الأول للمغربي محمد عابد الجابري في أن المثقف هو صوت أمته.. ومع تعريف كارل ماركس في أنه هو الذي يسعى للحقيقة للكشف عنها، والناقد لكل ما هو موجود بصرف النظر عن نتائج ذلك!
تاريخ مؤلم!
والخيانة طبيعة معروفة عن البشر؛ ولا يستثنى من ذلك المثقفون ولا العلماء وإن كانت خيانتهم أكثر بشاعة بحكم العلم والأدب والفلسفة التي ينتسبون إليها.. ولعل ذلك هو الذي جعل خيانة هذه الفئات مصدرا لعدد مهم من الأعمال الأدبية الخالدة ولا سيما في الأدب المصري الحديث الذي اهتم أبرز رموزه بتجسيد شخصية المثقف الخائن. وكالعادة يبرز نجيب محفوظ في رسم هذه النوعيات في روايات مثل فؤاد علوان في "اللص والكلاب"، وسرحان البحيري في "ميرامار"، وعدد من أبطال رواية "المرايا" الذين جسدوا الخيانة بأوقح معانيها ، وأبطال رواية "ثرثرة فوق النيل" الذين جسدوا الخيانة بهروبهم إلى مستنقع المخدرات والجنس!
سكة السلامة
خيانة المثقف كانت أحد محاور المسرحية الشهيرة "سكة السلامة" للكاتب المسرحي المعروف سعد الدين وهبة، ودوره المباشر في صناعة أزمة المجتمع المصري في الستينيات، وهي تحكي قصة حافلة عمومية ضلت طريقها أثناء سفرها إلى الإسكندرية، ولم ينتبه ركابها لمصيرهم المؤلم إلا وهم في قعر المصيبة بعد أن ضاعت حافلتهم في الصحراء الغربية، وغرزت في مكان رملي بعيدا عن العمران!
وخلال فصول المسرحية يكتشف الركاب (الذين يمثلون الشعب) أن زميلهم فكري عبد السلام الصحفي المعروف (رمز المثقف الخائن) كان هو سبب ما لحق بهم وبالسيارة (الوطن) عندما غرّر بالسائق (رمز قيادة البلاد) ونصحه بسلوك الطريق غير الصحيح انتهازا منه للفرصة لتحقيق منفعته الشخصية لكي يصل مباشرة لمرسى مطروح وجهته النهائية بدلا من الإسكندرية الوجهة الأصلية للحافلة! أو كما صرخ فيه السائق: "حرام عليك.. بقى عشان حضرتك رايح مرسى مطروح يبقى تأخذ الناس دي كلها معاك.. تودينا في داهية عشان تختصر المسافة؟".
يجسد فكري عبد السلام في "سكة السلامة" أنموذجا بائسا للمثقف الخائن لمهمته السامية؛ ولم تكن صدفة أن المسرحية تبدأ بدخوله خشبة المسرح وهو يشكو ويتألم قبل الآخرين؛ تماما كالمثقفين الذين يعانون كثيرا من مصائب أنظمة الحكم التي خدموها وطبلوا لها! وكالعادة فعندما تنكشف حقيقة مشورته الانتهازية يكابر في الإنكار والإصرار على تبرئة نفسه، وإلقاء التهمة على السائق الذي أخذ بمشورته بحكم أنه كان أقرب الركاب إليه، وحجته الدائمة: "أمثالك دايما يحقدوا على المثقفين أمثالي!".
تجارة القيم
مسلسل خيانة المثقف مستمر في بيع وشراء القيم النبيلة؛ فهو ينتهز وجود ممثلة فاتنة فاشلة من ضمن الركاب ليعرض عليها مشروع تسويقها إعلاميا مؤكدا لها أن الدعاية هي كل شيء وليس المهم الأعمال الفنية، وهو قادر على جعلها نجمة عالمية من خلال فبركة الأخبار والتحقيقات عن نشاطها وحياتها!
وعندما يعرض عليهم سائق عربية نفط عثر عليهم أن يأخذ معه راكبا واحدا فقط؛ يعرض المثقف خدماته الإعلامية وقدرته على إشهاره وتحويله إلى نجم مجتمع مقابل أن يكون هو الشخص الذي ينجو معه!
وفي ذروة الفاجعة التي عاشها ركاب الحافلة التائهين في الصحراء يكتشفون خيانة وملعوبا جديدا وغير أخلاقي للمثقف؛ فقد أعد بسرية تحقيقا صحفيا عن الركاب وما حدث لهم، وصوّرهم فيه واحدا واحدا بأبشع الصفات: أخلاقيا ونفسيا، وصور نفسه منقذا لهم، وبطلا وشهما لولاه لماتوا من اللحظة الأولى! وعلى حد تعبير سائق الحافلة الذي لخص به مشكلة المثقف: "ما قالش هو يطلع إيه.. ما قالش هو عمل كده بينا كلنا ليه.. مصيبة على الناس دي.. يشوفوا الناس وما يشوفوش نفسهم!".
وعندما انكشف ما كتبه المثقف؛ فسّر أكاذيبه بأنها نوع من الحرفنة الصحفية وأصول الصنعة حتى يصير للموضوع طعما! وفي الأخير عندما يصير الموت هو مصير التائهين يعترف كل واحد بأخطائه، وعندما يواجه المثقف بجريمته في خيانته أمانة الكلمة: ".. الأوراح دي كلها في رقبتك".. لحظة الموت المؤكد يقر المثقف بمسؤوليته عن المصيبة التي وقعت للجميع بمشورته الانتهازية، ويتعهد بالتوبة والعودة للقاهرة وهجر كل الأساليب الملتوية التي تعود عليها! ولكنه وعندما تم إنقاذهم في الأخير يتراجع عن وعده ويقرر الاستمرار في السفر إلى مرسى مطروح.. وعادت حليمة لعادتها القديمة!
يبدو أن يأس المؤلف من المثقفين كان كبيرا لدرجة أنه جعل إنقاذ التائهين يتم على يد مجنون يعيش في الصحراء؛ في المكان الذي جرت فيه معركة العلمين الشهيرة في الحرب العالمية الثانية؛ بعيدا عن زيف العصر.. ولا ميزة في ذلك المجنون إلا الوفاء للقائد العسكري الذي كان يعمل معه.. فهل أراد المؤلف أن يقول إن الأخلاق هي المنقذ الحقيقي للناس من أزماتهم وأنها هي التي تنقص المثقفين؟