آخر الاخبار

الرئيسيةكتابات عبدالله شروحفستان العيد

عبدالله شروح
عبدالله شروح
عدد المشاهدات : 866   
فستان العيد

"أبي، متى ستشتري لي فستان العيد"، ألقت بهذا السؤال متبرّمة. هو سؤال تكرره كلّ ليلة منذ بداية رمضان.

"في الغد يا ابنتي بإذن الله"، أجاب كما كلّ ليلة، مزيحاً نظرته الكسيرة صوب الزوجة الّتي سرعان ما أرخت نظرها إلى أرضيّة الغرفة، مبتلعةً ريقاً.

تنسحب الصبيّة بعبوس، تمدّ فراشها أسفل الغرفة، تضطجع معطيةً والديها ظهرها، تتكوّر مثل قطّة ليلة شتاء وتبكي بتكتّمٍ. متى سيكون لها ملابس جميلة مثل تلك الّتي لـ"أسماء"، ابنة الجيران؟! لقد اشترى لها أبوها فستان العيد ببداية رمضان.

كلّ يومٍ تذهب كعادتها إلى صديقتها، وبالكاد تدلف حتى تُخرج الثانية فستانها وبقيّة كسوتها وتستعرضها أمامها وكلّ الموجودين. كم تبدو جميلة!

لقد احتملت دوماً أن تعيش في هذا البيت المتهالك الكئيب، أن تكتفي بما تقدّمه أمّها من مأكولات بسيطة لا تتغيّر، على خلاف منزل أسماء الّذي يبدو مثل قصر، وتلك المأكولات التي تجدها هناك وتجهل أغلبها، نعم لقد احتملت كلّ ذلك، لكن أن يصل الأمر أن لا يشتري لها أبواها فستاناً للعيد، فهذا أكثر بكثيرٍ من أن يُطاق.

بالأمس، نهاراً، فيما أبوها خارج البيت، وبّختها أمّها. طلبت منها أن تكف عن مطالبة أبيها بفستان. ألا ترى كم يجهد من أجل إعالتهما. ثمّ إنّه سيشتري لها فستاناً ما أن يتسنّى له ذلك، وبالتّأكيد قبل العيد. فلتكف إذن عن تكرار طلبها هذا كلّ ليلة. لم تفهم ما الّذي يغضب أمّها في ذلك. لماذا لا يتمكن أبوها من جمع الكثير من المال، كما يفعل أبو صديقتها أسماء؟! آهٍ، كم تكره هذه ال"أسماء" رغم أنّها صديقتها الوحيدة. لماذا لم تكن هي ابنة ذلك الرجل بدلاً من أسماء؟! لكانت الآن محتضنة فستانها الجميل ذاك، منتظرة العيد بتلك اللهفة لأسماء.

ابتلع النّوم الصبيّة وعلى الفور وجدت نفسها في صبيحة العيد، ترفل بأبهى حلّة في حشد من صديقاتها، من بينهن أسماء الّتي بدت أقلّ ألقاً بكثير.

كان الأب خرج إلى جوار البيت بمجرّد اضطجاع البنيّة على فراشها. استند إلى الجدار، أخرج علبة سجائره الرديئة، امتشق واحدة وراح يتنشّق دخانها مغالباً بكاءه.

منذ سنوات لم يتقاض راتباً واحداً. كان جنديّاً في الأمن. في بداية الحرب تمّ تهميش القوّة الأمنية التي كان ضمنها، ثمّ حين انهار كلّ شيء لم يجد بدّاً من التنقّل بين مهنٍ وأعمالٍ بالكاد يقيم بمدخولها أوده وزوجته وابنته. في الفترة الأخيرة يعمل في حقل البناء، عاملاً بسيطاً يتلقّى أجرته باليومية، أجرة بالكاد تكفي لتوفير الحدّ الأدنى من الطعام. يريد أن يُفرح الصّغيرة، أن يشتري لها فستان عيد. كم تُلهب فؤاده رؤيتها مرتدية الأسمال البالية. لكن كيف بوسعه ذلك؟! أن يستدين؟! لم يعد ثمّة من بوسعه الاستدانة منه. مثقل بالديون. لقد غيّر طريق عودته إلى البيت. لم يعد يحتمل المرور من أمام البقالة. كلّما فعل يسمع اسمه يناديه من سجلّ الدّين، إن أخطأه صوت صاحب البقالة.

أكمل سيجارته، نظر إلى السماء متمتماً: "ستُفرج بإذن الله"، ثمّ دخل البيت. قبل أن يطفئ السراج لينام، تصنّعت زوجته ابتسامة وربتت على كتفه: "ستفرج بإذن الله". ابتسم وفي حلقه يكتظّ بكاء العالَم. لم ينم حتى قارب الفجر. زوجته أيضاً. ظلّ الجوع يقرص أمعاءها الخاوية، كما يقرص البؤس فؤادها.

في اليوم التّالي كفّت البنت عن مطالبة أبيها بفستان. بدت أيضاً جذلة، كل تفاصيلها تنضح سعادة. استغرب الوالدان هذا التحوّل. وظلّ الأب مهموماً، وإنّما بشكلٍ أقلَ، بشأن كسوة عيد ابنته.

بعد يومين، وفيما الأمّ تعمل على ترتيب أسمال البنيّة، وجدت بينها فستاناً جديداً ورائعاً. إنّه فستان أسماء. غضبت من ابنتها وانهالت عليها تقريعاً. كان الوقت يقارب العِشاء. وصل الأب في خضمّ ذلك. لم يستطع حتّى أن ينطق. استدار خارجاً دون أن ينبس.

حملت الأمّ الفستان وخرجت مع ابنتها إلى منزل عائلة أسماء.

مضى الأب يذرع الشوارع بعينين مغبّشتين، وعنق عامر بالغصص. لم يسمع أبداً مزمار الشاحنة السريعة. لاكته إطاراتها وأحالته مزقاً.

ورغم أنّه رمضان فإنّ أهله أولموا ثوراً في العشاء بعد الجنازة واستأجروا صالة كبيرة لاستقبال المعزّين.

في تلك الوليمة المزدحمة، لم تأكل الصبيّة قطعة لحمٍ واحدةٍ، وفي صبيحة العيد خرجت بدون فستان.