آخر الاخبار

الرئيسيةكتابات فيصل عليجدلية الذات

فيصل علي
فيصل علي
عدد المشاهدات : 6,634   
جدلية الذات

"ترانَا هل نَحتاج إلَى وطنٍ جَـديد .. أم ترَاه وطننَـا من يحْتاج إلَى شعْب جَديد !".

محمود درويش

 

نفتتح هذا العام و كثير من الأمنيات السعيدة لا تراودنا بسبب وضع اليمن الذي زادت تعقيداته، لكن أمل السلام يطل بقوة المنطق، و العقل، و الإدراك، و الواقع.

 

الحروب الفاشلة لن تستمر، و السلام الحقيقي الذي ينشده كل الناس سيأتي، لأنه ببساطة صار مطلب الجميع ، سنخوض عامنا هذا من البداية بحثاً عن السلام، بدلاً من الصمت أو الهروب من الواقع، فقد غبنا بما فيه الكفاية.

 

أبشر أصدقائي المحبطين، و القلقين أن القلق و الإحباط من المفردات اليومية التي لن تزول بزوال المسببات، حتى لو وصلنا إلى مرحلة الرفاهية، و هي تأتي بعد تأسيس و بناء الدولة، فإن الإحباط و القلق يستمران بلا هوادة، لا مثاليات في هذا العالم. مع التنبيه أن الحمقى غير قلقين أصلاً، فالمشكلات غير موجودة ، و الأمور "سبور" فلا قلق و لا إحباط لديهم، أما أنا سيد القلقين فتراودني لحظات ما بعد القلق و الإحباط، و أصل إلى مرحلة الشعور بالانطفاء، و أردد مع صديقي ديستوفيسكي : "لو أنَّني أعرفُ كلمةً أعمقُ من كلمةِ انطفأتُ، لقلتها ! أنا لم أشعُر من قبلُ بِانطِفاءِ رُوحي مثلما أشعُرُ بها الآن".

لكن لولا الشعور بالانطفاء لما تجددت الفكرة و ارتسمت الملامح على طريقنا الذي سلكناه ابتداءً، لا أتخيل نفسي بلا قلق، و بلا إحباط، و بلا شعور بالانطفاء، فهذه ثلاثية التحفيز المستمرة محروم منها الكثير من البشر.

 

عام مضى وعام أتى، و أنا أجادل و أحاجج ذاتي، و يرتفع الصياح في رأسي بين الحجج ، كما لو أن عشرة ألاف يناقشون قضية واحدة في نفس القاعة ، في هذه المرحلة صار الجدل الذاتي بيني و بيني هو الأساس، بعد مراحل متقطعه منه و متداخله مع جدل الآخرين، سواء أكانوا أناس لديهم القدرة على المجاراة، أو كتب دون فيها آخرون ما أتفق و أختلف معه من أفكار، فالجدل قديمه و حديثه يصنع مخارج طوارئ افتراضية، و واقعية للخروج من مراحل البحث عن الحقيقة والذات معاً.

 

لا أخفيكم أعزائي جميعاً أني غير مرة وصلت إلى قناعة أني قد أضعت الطريق، و مرات بالكاد أخطو خطوة واحدة فيه، و أحياناً أجد نفسي مثقلاً على نفس الطريق و لا أستطيع المضي فيه، أتعب كما يتعب جامعوا الحطب و الحجارة، و أرهق كما يرهق المجانين من أثر السير بلا هدى.

 

جلستُ إلى نفسي مؤخراً و اقنعتها بضرورة التغيير، مع أنه ظل يلازمني كظلي، و ما أن أتغير و أغير قناعاتي حتى أتغير مجدداً، و بعد كل هذا الجهد توصلتُ إلى قناعة أن الإنسان لا يختلف عن الحمار!! إلا في أن الحمار يعلم "بحموريته" والإنسان لا يعلم بها، و إن علم أخفى الأمر عن نفسه، و عن من هم بجواره، هذه ليست قناعة بقدر ما هي فرضية، ما الفرق إن أضاع الطريق مخلوق يمشي على رجلين أو على أربع أو يطير فوقنا بجناحين؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.. الآية.

 

تجلس إلى البعض فتضيق نفسك و تشعر بالغثيان، لا تريد التواصل بهم ولا سماع أصواتهم و تمنعك قيمك من التصريح بذلك فتتحاشهم علهم يفهمون من تلقاء أنفسهم ، و لكن لا حياة لمن تنادي. فتوقن بخرافات الأرواح الشريرة، و تقرنها "بالعين حق"، و اهجوهم و لا تغزوهم، فتحدث لديك حالة من اللاعقل و اللامنطق، هل لهذا الحد صار الشر منتشراً لدرجة القرف؟!

 

ربما يدرك ذلك البعض و البعض لا يدركه، إلا أن الثقلاء موجودين في كل زمان و مكان. و لذلك لابد من التحذير من صنفين من الناس يستحسن أن لا تقترب منهم: الانتهازيين، والمتطلعين إلى الوصول عن طريقك إلى أهدافهم قصيرة المدى.

 

و لصناعة السلام الداخلي لابد من الابتعاد عن الحماقات والتراجع عنها ، و لذلك لابد من الابتعاد عن الحمقى، فهم مصدر غني بالحماقات و بالأفكار العدمية التي لا رأس لها و لا رجل.

 

هناك أشخاص لا يصلحون أصدقاء في الواقع، ولا في الواقع الإفتراضي، و اعتزالهم من موجبات السلام الداخلي، و هذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي، مع أنه لم يكن لديه حساب على الفيس ولا رقم في الواتس حين قال عنهم:(فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحة).

 

علينا أن نتفق على المستوى الشخصي أن هذا العام هو عام التخفف من الحمولات الزائدة و الحمقى و الحماقات، فلا مجال للبقاء على نفس النهج و تجريب المجرب، عام فيه نريد نعزيز القيم العليا، و ترك النزق و المجاملات على حساب الروح و الجمال و الفن، الحياة لا تحتمل المزيد من الضجيج.

 

يكفي أن يكون المرء صديق نفسه، مش صاحب صاحبه على رأي إخواننا المصريين، ما دام لديك الرؤية واضحة يكفي فلا تحتاج لأحد، في العتمة هناك نور قادم من بعيد، و في ثنايا الروح هناك حقيقة كبرى، أحمل علامتك المفضلة و توكل، فقد فعلها نبي الله إبراهيم عليه السلام من قبل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (120) النحل٠

 

من المزعج أن تعيش لترى ذنوبك و صناعتك الخاطئة ، فهي من أشد أنواع العذاب، و مع أنها مؤلمة إلا أن لها جوانب إيجابية تتمثل في تحسين و تجويد المنتجات اللاحقة ، علم من تصنعهم من طلابك أن الحب مقدم على الكره، و أن حسن الخلق مقدم على البذاءة، و أن الصدق هو المقياس الذي لا يتغير بتغير الأعوام ، و أن التفكير هو الكتابة.

 

قال لولده :" يا فتى إقرأ لثلاثة لي و لفيصل و لمروان" ، وجاء يزف لي البشرى.. فقلتُ :" قاتلك الله من أنا لتقارني بمروان ملعون الكتابة الذي لم يبلغ أحد في اليمن والجزيرة مداه، أحببت مقالاته وخالفت بعض ما جاء فيها، إما لأنه مس بعض أصنامي الذين عبدتهم دون أن أعلم، و ربما لأن الحق ظهر على لسانه قبلي، و مع ذلك لم أتقبله روائياً، وقد يعود السبب إلى نزق الطباع الذي ما زال يعتريني كما يعتري وحيد القرن. " قلت له :" أما بعد فأنت ما زلت مسكيناً لا جديد لك ولا قديم تتكئ عليه، و لن تكون كاتب و لا قارئ و لا شويعر، و لا حظ لك في هذا العالم المدهش، فلا تغشنّ الطفل نسأل الله أن يبعده عن هوسك ليعيش كالرجال."

 

"أرسل الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب إلى مدير مجلة الآداب رسالة يقول فيها: "‏أرسل إليك برفقة هذه الرّسالة قصيدة لي بعنوان: أنشودة المطر . و أتمنّى أن تنال رضاك و أن تكون صالحة للنشر في الآداب ، و إني لخجول جداً من أن قصيدتي هذه ستشغل في مجلة الآداب حيّزا قد يكون من الأولى ملؤه بما هو خير من قصيدتي و أجدى".. رحم الله السياب لم يكن يعرف أن من لديه حساب في وسائل التواصل الاجتماعي يعتبر نفسه خير الناشرين، و أن منشوره يحدد مسارات الكون، و أن طريقه إلى الشهرة سيوصله إلى مالم يصله السياب.

 

لقد ضاعت الآراء في زحمة العدم و الضجيج، لم يسأل أحدهم نفسه عن عمره الكتابي حتى يفشر و ينشر، و يا فلان إقرأ لي، و كما أنا قد نشرت "بوسط" و بوسط هذه مفردة من بسطة الخضار، و لا علاقة لها بمفرد post الإنجليزية و التي تفيد بإلصاق ما كتب بالحائط و تفيد بأنه تم النشر.

 

الكتابة هي التفكير، و ليست مجرد مقضى غرض، و مجرد فصلهما عن بعضهما يكون الناتج مجرد رص أحرف و جمل بلا قيمة أو معنى. المحتوي المميز قادم لا محالة، و الضوضاء ستزول، العالم لن يحتمل خفة العقل كثيراً وهذا رهان 2019 و ما بعدها.

 

عام مليء بالحب والخير والسلام لكم جميعاً، وكل ميسر لما خلق له إلا "المتنحين" فهم أخبر.