|
البارحة دعا الحوثي، عبد الملك، في خطاب الحرب إلى رفد جماعته بالعطاء والمقاتلين. وبعد كلام كثير مليء بالعنف والتناقض والخداع المكشوف بشّر عبد الملك الحوثي مقاتليه المتجهين إلى عدن ولحج وتعز ومأرب بالفتح المؤزر. والفتح مصطلح عسكري ديني يعود إلى القرون الإسلامية الأولى وكان يقصد به دخول الجيش الإسلامي أرض الكفر.
هذه القصة الطويلة حديثت البارحة.
هذا النهار تحدث محمد البخيتي، الشخصية الحوثية المعروفة، إلى قناة الجزيرة من فندق موفمبيك في صنعاء معلقاً على تهديد سعود الفيصل باستخدام القوة. قال البخيتي إن درع الجزيرة جيش كبسة، وأن الحوثيين سيحررون نجد والحجاز.
وهي ليس المرة الألى التي يقول فيها الحوثيون إنهم ماضون في تحرير نجد والحجاز، والاستحواذ على قبر جد مؤسس الجماعة. فبعد أن أفرج الحوثيون عن أحمد عوض بن مبارك، مدير مكتب الرئيس، راح يروي قصصاً غرائبية عن دروس حوثية في المعتقل، ومحاولتهم إقناعه بأن نور المسيرة سيضيء العالم وأنها مسيرة أشهر والمسيرة القرآنية تتجول في مكة وفي الرياض. وكانت هذه رواية مشتركة عديد من المفرج عنهم من معتقلات الحوثي. الكاتب عزوز السامعي روى لي قصة شبيهة، وقال إنهم أبلغوه البشارة في المعتقل وكانت عيونهم ملتهبة باليقين طالبين منه أن يبتهل وينتظر فغداً، أو بعد غد، ستبلغ المسيرة القرآنية أراضي مكة.
وفي احتفال الحوثيين الأخير بالعيد النبوي سُمِعت لأول مرة في تاريخ اليمن زوامل جبلية تتغنى باليوم الوشيك،
يوم دخول مكة والمدينة. وقد قرأنا مذكرات وتدوينات كثيرة من شهود عيان تسرد ملامح هذه الظاهرة الأجد.
البخيتي كان واضحاً اليوم في إشارته إلى "حكم آل سعود" وهي جملة لا تستخدمها سوى الجماعات الدينية.
فالسعودية دولة من أقوى سبع دول في العالم بحسب تقرير للأميركان ريفيو قبل أقل من شهر. وهي دولة يمثل استقرارها الشامل موضوعاً مركزيّاً لكل العالم. وتملك جيشاً عصرياً هو واحد من أقوى جيوش العالم بحسب كل التقارير العسكرية الدولية. أما على المستوى الاجتماعي فإن الشعب السعودي ليس شعب كبسة، كما يقول الحوثي. فقد نشرت صحيفة الحياة قبل عام دراسة تقول إن 46% من خريجي الجامعات السعودية يلتحقون ببرامج للدراسات العليا. وفي العام 2012 على سبيل المثال صدرت في السعودية 24 رواية جديدة ل 24 كاتبة سعودية.
في حين يعلم البخيتي جيداً أن الفرد السعودي حين يقرر أن يكون مجنوناً فإنه يكون مجنوناً بمواصفات عالمية. وما تنظيم القاعدة إلا واحدة من تجليات الجنون السعودي حين يعبّر عن نفسه. وقد سجل السعوديون أرقاماً قياسية في سجلات قتلى الحروب في جنوب أوروبا وأفغانسان والشام. وليست القاعدة التي يهذي بها الحوثي ليل نهار إلا اختراع لمواطنين سعوديين قرروا أن يكونوا مجانين على الطريقة الحوثية.
يتحدث البخيتي عن السعودية على طريقة القذافي. وقبلاً قال القذافي مخاطباً بيل كيلنتون: لو أنت راجل تعال في حلبة أنا وأنت راجل لراجل.
على كل حال تقول معلومات الحرب السعودية الحوثية الأخيرة إن صالح تدخل بكل قوته ومنع الطيران السعودي من الإجهاز على القوة الحوثية. هكذا تحدث مسؤول سعودي كبير لمجموعة من الساسة اليمنيين قبل أشهر.
في الجيل الرابع من الحروب، إذا أخذنا تصنيف المفكر العسكري الأميركي ناي، تكتفي الجيوش الحديثة بالتقانة، ذلك أن أهم ملمح يميز هذا الجيل من الحروب هو اختفاء جبهة القتال. وبينما كان الحوثيون يخوضون حروبا تعتمد كليا على حشد أكبر عدد من الأطفال والزج بهم إلى الجبهة "قال أحد الأطفال الفارين من تعز وهو يبكي أبي شقتلني لو دري إني رفضت أجاهد"، فإن الجيش الحديث يخوض حرباً بلا جبهة تعتمد على التقويض العنيف لقوى الخصم في الداخل بما في ذلك سحقه سياسياً.
وقد استطاعت السعودية خلال الأسابيع الماضية أن تسحق الحوثيين سياسياً. وها هي الحركة الحوثية تعترف كليا بأن هناك "حرب على اليمنيين على كافة المستويات". ولم تكن الجملة الساذجة تعني سوى شيء واحد وهو أن السعودية عزلت هذه الجماعة المعتوهة وصفّت خلفها المجتمع الدولي. فالسعودية بتوقيت سلمان تتغير على نحو جذري، ولم تعد هي السعودية التي أبلغت الحوثيين قبل عمران إنها لا ترى مشكلة من تقدمهم خطوة إلى الأمام! في تلك الأثناء كان لدى التويجري خارطة للإخوان المسلمين في العالم وكان يتتبعها كأنها لعبته المسلّية الوحيدة. وبعد ثلاثة أيام من رحيل الملك عبد الله أقيل التويجري، ووضعت خارطته في حجرة مظلمة.
فقد نجح الرجل في تقويض الربيع العربي والإتيان بالربيع الإيراني على حد تعبير الكاتب الشاب محمد العمراني.
لا يمكن التقليل من خطورة تصريح وزير الخارجية البريطاني هذا اليوم عن موقف المجتمع الدولي من "القوى المسلحة التي تحاول التهام الدولة اليمنية". كما كان قوله إنه سيناقش الفكرة مع الأميركان قولاً محورياً، فقد بدا واضحاً أن بريطانيا وأميركا منحت السعودية ضوءاً أخضر للتصرف في الشأن اليمني باعتباره صار موضوعاً يخص وجودها الحيوي وليس السياسي. وفي المسائل التي تقول السعودية إنها "وجودية" بالنسبة لها، وأنها تعتبرها أكثر من قضايا أمن قومي، تحتشد القوى الكبرى خلف السعودية. في العام الماضي نما اقتصاد منطقة اليورو ببطء شديد ولم يتجاوز النمو تسعة من عشرة في المائة، وهي نسبة تهددها أي اضطرابات عميقة أو انفلاتات طويلة المدى في الجغرافيا الحرجة. اليمن مثالاً.
كانت إيران دولة عدوانية على مر الأيام. وهي دولة لا تنجح في إقامة أي علاقات جيدة مع أي مجتمع أو دولة في العالم. وليست إيران في المجمل سوى جماعة دينية مسلّحة سيطرت على الحكم وبقيت وهي في السلطة تتصرف على طريقة داعش والقاعدة، أي كما تفعل كل الجماعات المسلّحة. ولأسباب دينية عميقة ترفض تلك الدولة إقامة علاقة جوار حسنة تحترم المدونة الأخلاقية والسياسية للإنسان المعاصر.
الواقع إن الحوثيين وجدوا دولة هشة ومريضة وهي اليمن، وسيطروا عليها بقوة السلاح وفتحوا جسوراً جوية مع دولة لا يربطنا بها تاريخ مشترك ولا جغرافيا ولا مصالح. وقامت الجماعة الحوثية بتقويض علاقاتنا مع كل مجالنا الحيوي.
وفي المشهد الأخير تفككت الدولة اليمنية الكبرى وبدت ملامح دولة أصغر تتشكل في الجنوب، وسيكون من الأفضل لليمنيين جميعاً أن لا ينجح الحوثيون في تقويض الجنوب وتحويله إلى ميدان رماية لإيران، ولا لمعرض تاريخي للخرافة الحوثية. وليس السؤال هو ما إذا كان الجنوب سيحصل على دولة مستقلة أو لا، بل ما إذا كان سينجو من الخرافة والرعب و"دولة الحقيقة" بصرف النظر عن الشكل القانوني والسياسي الذي سيتخذه.
يبدو أن التدخل الخارجي الخليجي، وهو ليس تدخلاً خارجياً بمعنى كلّي، يأتي لحماية الخارج من جنون القوة المغامرة الحوثية، التي أصبحت أخيراً بندقية للإيجار. وإذا كان هناك من متسبب في جلب التدخل الخارجي العسكري فهو عبد الملك الحوثي وجسوره الجوية مع إيران وسفنة الحربية مع إيران و.. حد البعثات العسكرية الحوثية للقتال في سوريا ضمن الكتائب الدينية المقاتلة هناك. وما هو أكثر بلاغة من ذلك كله هو حديث الحوثيين عن مساع حثيثة لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك بين اليمن وإيران! ولم يحدث أن ارتكب يمني من قبل مثل هذا الخطأ الفاحش.
قال البخيتي هذا النهار إن الشعب اليمني مقاتل بالفطرة. وعلى مر مئات السنين كانت تعز هادئة لا تحمل السلاح، وكذلك كانت إب والحديدة وذمار، ومن خلفهم كل الجنوب، وعاشت صنعاء "تحوي كل فن". ولم يكن الصياد في حضرموت يفكّر قط بشراء حربة، ولا بندقية صيد.
كان اليمنيون تلاميذ جيدين لحميد بن منصور وعلي ولد زيد، وهذان كانا يخترعان لليمنيين أغاني الحقل والزراعة والمطر. لم يكن اليمنييون سوى فلاحين طيبين وكانت زبيد مدرستهم الكبيرة، ثم حلت عدن في الواجهة وكانت شبّاك النور في العصور الحديثة.
أما المحاربون بالفطرة فكانوا هم الأئمة. وها هو البخيتي، كما هي عادة الخطاب الحوثي إجمالاً، يختصر اليمنيين في الأئمة.
وحدث أكثر من مرة أن دُون التاريخ اليمني على هذه الطريقة:
"خرج سيدي فلان والتقى بسيدي فلان ودارت بينهما معركة فاصلة، ثم ذهب سيدي فلان وسيدي فلان إلى المسجد لصلاة الظهر، واتفقا هناك، وأهلك الله القبائل"
كان "سيدي فلان" مشعلاً للحروب، لأن رأسه امتلأ بالخرافة. والخرافة تصنع التقديس، والتقديس يجلب العنف، و العنف يتجلى في الحروب.
وليس عبد الملك الحوثي محارباً لأنه بطل إنساني عظيم بل لأن رأسه مليئة بالخراء والخرافة. وهو خليط يحول رأس المرء إلى مذبح مقدس.
من صفحة الكاتب على فيسبوك
في الثلاثاء 24 مارس - آذار 2015 10:29:00 ص