|
لا يقتصر الكفر على الظهور بشكل واحد وصورة واحدة، فهو قد يأتيك على صورة ملحد ينكر وجود الله ويرفض وجود الدين في حياة الإنسان جملة وتفصيلاً، وهذه صورة واضحة وجلية وغبية جداً، وهي أوضح أنواع الكفر.
لكنه قد يأتيك على صورة متدين وشديد التدين يدعي أنه منافح عن الدين وحريص عليه، بل ويتهم أهل التدين الحقيقي أنهم أعداء للدين ومفترين على الله الكذب، وقد جاء مما جاء عنهم في كتاب الله قولهم عن الرسول "إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين".. إن مبرر كفرهم هو أنهم يرفضون الكذب على الله!
وهذا تحديداً هو الصنف الذي أقصده في مقالي هذا، وهي صورة مختلفة تماماً ولا علاقة لها بالنفاق البتة، فقد يتوهم البعض للوهلة الأولى أنني أقصد بكلامي المنافقين.. كلا، فالنفاق صنف آخر من أصناف الكفر تختلط فيه المواقف بين الحق والباطل، فتراهم في صف الإيمان كأنهم منهم، لا تشك في إيمان وإسلام أحد منهم، بل تكاد تجزم أنهم من خيرة المؤمنين "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم..".
لكنهم يبطنون الكفر والخذلان لأهل الإيمان، ولا يظهرونه للأعيان، إلا في بعض الأحيان، كفلتة لسان أو زلة قدم على حين غفلة وبدون قصد من أحد منهم، ليفضح الله بعضهم أمام أهل الاختصاص والشأن فقط.. هذا هو النفاق وهؤلاء هم المنافقون، وهم بلا شك خطيرين جداً، بل إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
لكن ما أقصده هنا في هذا المقال تحديداً، وما ذكرته في العنوان، هو الكفر الواضح البين الجلي الذي يظهر بصورة خطاب الإيمان، وهو صورة ماكرة يستخدمها الكفر للتشويش والتشويه في إطار الحرب المعلنة والمفتوح على كل الجبهات، والتي يستخدم فيها الأعداء كل الوسائل الموصلة إلى تحقيق الأهداف الرئيسية.
إننا نعيش اليوم حرباً لا هوادة فيها يستوي فيها ما تفعله طلقة الرصاص من أثر بالغ مع ما تحدثه الكلمة والموقف من أثر أبلغ، بل إن للكلمة والموقف أثراً قد يفوق أثر الرصاص والمدافع والقنابل مجتمعة، والعبرة بالنتائج والآثار، لا بالوسيلة في حد ذاتها.
لم يكن فرعون ذات يوم غير خلاصة مختصرة ومكثفة جداً للتعبير عن الكفر والإجرام وهذه باتت من الأمور المسلمة عند أي شخص منا اليوم، لكنه في زمانه كان يمثل وجه للتدين المضلل عن الدين الحق، فقد قال عن موسى "إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"، ولا ريب في أنه قد استخدم هذا الخطاب الديني المزيف المدعي للفضيلة ومحاربة الإفساد في الأرض حينما وجد له من يقبله، بل ويتبنى وجهة نظره تلك، وإلا لما تجرأ على أن يروج لمثل هذا الكلام الفارغ من وجهة نظرنا اليوم.
لن أطيل في سرد أدلة كثيرة من مواقف يهود المدينة وغيرهم ممن كانوا يستخدمون خطابا دينياً مزيفاً وهم يعلمون علم اليقين أنه كان خطاباً زائفاً لا أساس له من الصحة، لكنهم قد استخدموه ضمن استراتيجية معدة سلفاً لمواجهة الدين الحقيقي "دين الإسلام".
فيدعون أن كفار قريش على الحق المبين وأن المؤمنين على الباطل مسخرين مرجعيتهم الدينية في دعم الكفر وأهله "ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً"، "حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.."، وفي ممالاه واضحة للشيطان الرجيم وتخندقاً معه حتى آخر لحظة.
هؤلاء "المتدينين" الذين يدعون أنهم مسلمين مؤمنين ثم لم نر لهم ولا موقفاً واحداً مشرفاً مع الإسلام والمسلمين في أي مكان من العالم ليسوا منافقين، البتة، فالمنافقين على الأقل يصطفون غالباً في صف الإسلام والمسلمين وقد يغزون مع المؤمنين ويظهرون أنهم من أصدق الناس إسلاماً وإيماناً، حتى أن أمرهم قد يختلط على المؤمنين أنفسهم وقد يظل أحدهم ضابطاً لتصرفاته لا يبدي للناس منه أي خلل حتى يتوفاه الله دون أن يشك في إيمانه أحد، إلا إذا امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حذيفة بن اليمان، من بعده عن الصلاة عليه، هذا الصنف ليس المقصود هنا.
إنما أقصد من اتضح أمرهم لكل أحد وبان عوارهم للجميع، أولئك الذين يستخدمون خطاب الدين الإسلامي في مواجهة ومحاربة كل مسلم ولمساندة ونصرة كل كافر ومجرم، فهم لا يستخدمون لحن القول لنقول عنهم منافقين قد تلبس على الناس أمرهم، بل هم يستخدمون الفصيح من القول وأبلغه.
ومن لم تتضح له حقيقة ما أقوله حتى اللحظة فأذكره بالمواعظ الدينية الإسلامية التي يلقيها أفيخاي أدرعي، رئيس قسم الإعلام العربي الناطق باسم الجيش الإسرائيلي هذه الأيام، حيث يستشهد بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال علماء مسلمين، ليثبت صحة موقف كيانه الغاصب وما يرتكبه جيشه من جرائم يندى لها جبين البشرية، وأنت تستمع لمواعظه لن تدرك أنه عدو للإسلام والمسلمين لولا أنك تراه في بزته العسكرية وتعرف أنه ناطق رسمي للجيش الصهيوني ومفتخر بيهوديته، فهل تستبعد أن يجند لمثل هذه المهمة من يتقن نفس الدور وبجبة وعمامة إسلامية ثم يدعي أنه مسلم؟
وللتوضيح أكثر علينا استحضار شخصية عبدالله ابن سبأ اليهودي، الذي أعلن إسلامه ثم راح يفتك بالإسلام من داخله بعد أن جند معه جيشاً من المغفلين والمرضى والجهلة والمغرضين من أبناء هذه الأمة ليقتل بهم الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه وأرضاه، ثم يغالي في محبة علي، رضي الله عنه، من بعده، ويدعي أنه إله، وها هي فتنته ومصائبه تطارد الأمة حتى يومنا هذا.
فحسبنا الله ونعم الوكيل فيهم.. نسأل الله السلامة والعافية مما ابتلاهم به.
في الإثنين 28 أكتوبر-تشرين الأول 2024 09:55:04 م