|
لم يتوقع يوما أولئك الباحثين عن الوطن، في كل شيء حولهم، وأرواحهم، وضحكات الصغار، أن يدوروا ويدورا في حلقات مفرغة، لا تنتهِ بهم إلى شيء.
لم يتوقعوا أن يرحلوا عنه برغبتهم هذه المرة، بعد أن كانت أرواحهم هي الثمن الذي سيتقربون به إلى" الوطن الحلم"، الذي حين كانوا يصرخون باسمه وحده، ويرددون" إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر"، رأوا حتى مبانيه العالية، وزهوره، ومدن الضوء فيه التي تنهض، ما أن يستيقظ المساء.
لم يتوقعوا أن يبتعدوا عنه مكرهين، خوفا من أن يجرفهم أكثر، في سيل الضياع الذي حل به، وجعل أرواحهم عالقة بين الخوف والخوف، والقلق من كل شيء، وعلى كل شيء.
الوطن الذي أحبوه، ها هم يكفرون به، خوفا من الموت الذي يحكم به "لصوص الحياة"، والذي جعلوه هوية للوطن، والقانون الساري في البلاد، وهروبا من التنكيل بروح الوطن أمام أعينهم.
وطن أولئك الراحلين بأجسادهم، هو الذي لم يعرفوا عن أريج الزهور شيئا إلا حين يتنشقوه هو، وهاهم اليوم يشمون فيه ومن بعيد رائحة الدماء، ولا شيء غير الدماء.
هم يفتشون في حقول أرواحهم، التي يسكنها وطنهم، لكنهم لا يعثرون فيها عليهم أو عليه، هم يجدون آثار خيمته الأولى التي ثبت أوتادها في روحهم بقوة، لكنهم لا يعثرون عليه بسهولة، كما كانوا يفعلون.
هم يبحثون في تضاريسه عن وجوه أبنائهم، ووجوههم، ونساء ورجال مدن الوطن القديمة، فيجدوه عبقا بالأصالة، وإن اعتراه بعض التشويه.
هم يعرجون إليه في البكور، والعتمة، فيسمعوا في الصباحات أصوات آلات القتل، وفي المساءات كذلك.
هم يضيعون فيهربون، ليعثروا عليهم، لكنهم يتيهون أكثر، ويسمحون بذلك لكنهم موقنون بأن أرضه ستجمع شتاتهم ذات نصر.
يحاول أبناء وطننا الكبير في جبهات القتال، أن يعيدوا تشكيل خارطته، وتكوين مدنه من وجوه أبنائه، التي يدمرونها لصوص الحياة بمشروعاتهم.
بعض أولئك الراحلين هم أكثر، من توجعوا من كل رصاصة غادرة اخترقت جسد أحد شباب البلد، ليرتق جرح في جسد الوطن، ومن كل صوت قذيفة دمرت بناء طفل كانت تنسجه أحلامه.
وسيسمعون فيه ذات غسق، عن صرخة طفل وليد، سيصرخ والوطن في آن، ويولدا معا، كنبتة الكولونيا، وذات ضحى سيسمعون زقزقات العصافير وأغنية الوطن، وذات غبش سيتنفسون رائحته التي تصل حتى أعماق أرواحهم، ولا تخطئ الجادة.
سيعودون، وسيقبلون ترابه، ويتخذون منه مأوى لأرواحهم؛ لتستريح بعد رحلة ضياع في المنافي، وسيسمحون لشمس الله في وطن الروح، أن تتغلغل في مسامهم، ليدركوا أنهم في الوطن الذي لا تشبه شمسه، شمس أي بلاد أخرى.
هذه المرة سيغمضون أعينهم وهم أكثر اشتياقا لأن يستيقظوا، ليروا حسناء" صبر" تتلفع بحمرة خفيفة تضرج وجنتاها، ومشقُر يطل من وجهها كالقمر في تمامه، وليشاهدوا حتى رحالات بلدنا وهم يمضغون القات، وسيشتاقون لرؤية المتسولين وهم يدخنون بقايا سيجارة، كل ملامح الألم التي تصطبغ بها بعض تفاصيل الوطن، سيحبونها فهي جزء منه، لكنهم سيعلمون على تغيير الألم إلى كرامة، تصون إنسانية أولئك الذين لا تبرز بطونهم، كما تبرز بطون الذين يتغذون بشراهة على الوطن، وأوجاع أولئك وتعاستهم.
الوطن ما عاد يشبه الوطن الذي كان موطن أرواحنا، والكريم بالمحبة، الوطن اليوم غيّروا لغة السلم فيه، فأدرك بأن عليه أن يتحدث عن النصر ولا شيء غير النصر، وعن مستقبل الأطفال والشباب الذين يحلمون بالغد الآتي، ويستحقون حياة أجمل، لا تشبه الحياة التي يتحدثون عنها من دمروا الوطن، وهي المتوشية بالموت، وإن لم يفصحوا عن ذلك، إلا أن أفعالهم هي من تتحدث.
في الجمعة 29 يناير-كانون الثاني 2016 01:38:13 م