|
عندما يَنظِم شاعر ومفكر عربي كبير مثل أدونيس قصيدة في مديح رجل الدين، وقائد الثورة الإيرانية الراحل الخميني، ثم يرفض أن يقف مع ثورة السوريين السلمية قبل عسكرتها، بحجة أن مسيراتها «تخرج من المساجد»، عندما يحدث ذلك، فإن ما يمكن تسميته بـ «التقية العلمانية»، التي مارسها هذا المفكر الكبير تنهار.
وعندما تشترك مع شعراء عراقيين حداثويين- مثلاً- في إدانة تنظيم «داعش» وأعماله الإرهابية، ثم لا يُدين هؤلاء «المرهفون جداً» مليشيات «الحشد الشعبي» الإرهابية، التي أدانتها المنظمات الحقوقية حول العالم، عندما يحدث ذلك، تكتشف أن الحساسية المفرطة لدى هؤلاء الشعراء إزاء رؤية مناظر الذبح والحرق لا تثور إلا عندما يكون المُنفّذ من «داعش»، ويكون الضحايا من جماعتهم، أما إذا قامت بهذه الأعمال الإجرامية عناصر «الحشد الشعبي»، وكان الضحايا من غير الطائفة، فإن هذه «الكائنات الشعرية الحساسة جداً» تتملص من استنكار هذه الأعمال الوحشية، إما إلى إنكار قيام الحشد بها، رغم شهادات حقوقية دولية، أو إلى الادعاء بأن المجني عليهم هم أصلاً من الدواعش الذين يستحقون ما نزل بهم.
عندما يظهر الشعراء والكتاب بهذا الشكل، فإنهم لا يعبرون عن نزعة دينية طائفية وحسب، ولكنهم ينزعون إلى ميول أصولية خطيرة، غالباً ما يموهونها بغير قليل من الكلام المزوق عن الليبرالية والحداثة والقيم العلمانية. هذا ضرب من «التقية العلمانية»، التي تتيح للكثير إخفاء نزوعهم الطائفي، بغلالة رقيقة من العلمانية، لا تلبث أن تنهار ولا تصمد عند أول امتحان لهذه القشرة الرقيقة.
وإضافة إلى ما سبق، فإن كثيراً من الكتاب من أصحاب هذه «التقية العلمانية»، يركزون – مثلاً – على نقد التاريخ الإسلامي من منطلقات علمانية في ظاهرها، ولكنها في الواقع منطلقات طائفية، إذ يتم نقد هذا التاريخ من منطلق أنه «تاريخ سني» تحديداً، لا «تاريخا دينيا» بشكل عام.
يشعر الكثير من الكتاب إزاء هذا التاريخ بأنه تاريخ «الآخر الطائفي»، ولذا فإنهم يأخذون حرية أوسع في تشريحه، وينطلقون في عمليات التشريح من الأحكام المسبقة التي تعتسف النصوص والأحداث لتأييد تفسير ما دون غيره، بدلاً من الاعتماد على الوقائع وتحليلها لصياغة خلاصات أكاديمية تسهم في إعادة قراءة التاريخ بشكل سليم. وهذا الأمر هو ما يجعل مثل هؤلاء رهائن «الغيتوهات الفكرية» التي فرضوها على أنفسهم إزاء رؤيتهم الأحادية، وتأويلاتهم التي لا تخلو من هوى طائفي.
وفرق كبير – على سبيل المثال- بين طرح علماني ينتقد «تاريخاً دينياً»، وطرح شيعي ينتقد «تاريخاً سنياً»، لأن الأول يعمل أدواته العلمانية، فيما يعمل الثاني سكيناً طائفية.
المثير للضحك أن بعض الكتاب – في اليمن- يريدون من العرب والمسلمين – على سبيل المثال- أن يعتذروا عن تاريخ من «الرقيق» الذي مارسوه، من دون أن يشيروا إلى أن بيوت أسلاف هؤلاء الكتاب من الأئمة في اليمن كانت تعج بأنواع السبايا والرقيق من رجال ونساء اليمن.
بمعنى أننا مطالبون بالاعتذار عن تاريخ «الخليفة» هارون الرشيد، من دون أن يلزمهم الاعتذار عن تاريخ «الإمام» عبدالله بن حمزة، الذي سبى نساء المسلمين اليمنيين من الزيدية نفسها، لمجرد أنهم نفوا وجوب شرط النسب لتولي الإمامة، فكفرهم ابن حمزة، وسبى نساءهم، وأنجب من بعض «نساء السبي» بعض أولاده، ممن أصبحوا أئمة بعد ذلك.
على كلٍ، لو لم يكن الدافع الطائفي – لا العلماني – وراء تلك المطالبات «الإنسانوية»، لهؤلاء الكتاب البالغي الحساسية تجاه «تجارة الرقيق»، لكان الأولى بهم أن يطالبوا بالاعتذار عن استعباد اليمنيين في عهد دولة الإئمة القريب، بدلاً من المطالبة بالاعتذار عن أفعال الأمويين والعباسيين في سالف الزمان.
هؤلاء الكتاب الذين يدعون إلى مراجعات للتاريخ الإسلامي، وإعادة قراءته- وهو مطلب محمود- يركزون عند ممارسة هذه المراجعات على نقاط مظلمة- فقط – في هذا التاريخ، في محاولات لا تكشف أكثر من سقوط تلك «التقية العلمانية» والموضوعية، التي حرصوا على تلبسها خلال فترات طويلة. ولذا تجدهم دائماً يكتبون- في انتقائية – عن «حادثة السقيفة، والفتنة الكبرى، وقضايا العنف المتبادل بين المسلمين»، وغيرها من الأحداث بطريقة أحادية تكشف نزوعاً طائفياً، لا تحقيقاً تاريخياً.
إنهم بعبارة أخرى يتعرضون بالنقد لفكرة «عدالة الصحابة»، على سبيل المثال، التي تعني استحالة تواطئهم جميعاً على الكذب، وهي فكرة يمكن أن تكون مقبولة من حيث المبدأ، ثم يعرضون عن نقد فكرة «عصمة الأئمة»، التي تعني استحالة أن يقعوا إطلاقاً في الخطأ، وهي فكرة يستحيل قبولها، كون البشر يخطأون.
مشكلة هؤلاء إزاء التاريخ الإسلامي، ليست أن في هذا التاريخ فترات مظلمة- وهي بالتأكيد فيه- بل تكمن معضلتهم أساساً في أنهم لا يرون هذا التاريخ تاريخاً لهم، ولذا يهاجمونه، على طريقة، «ما ليس لي، هو منجز غيري، وفِي هدمه إبراز لمنجزي».
ومرة بلغ التناقض ذروته عندما كنت أناقش أحد هؤلاء «المفكرين العلمانيين» جداً، حول شخصية النبي محمد، حيث شن على الشخصية النبوية هجوماً لاذعاً، منتقداً «دولة النبي»، في المدينة، قبل أن ينتهي إلى قوله إن الإمام الخميني كان واحداً من أعظم رجالات التاريخ، وإن «دولة الولي الفقيه» تعد أقرب النماذج الإسلامية إلى روح العصر، ليلتها لم أستوعب كيف يمكن لإنسان أن يقدح في مشروعية الأصل، لينتهي مؤصلاً للفروع.
أخيراً: يبدو لي أن الدين والعلمانية لدى الكثير، في شرقنا المثخن بأكثر من جرح، مجرد وسيلتين، فأيهما أدت إلى السلطة والثروة أخذ بها. وقد شهد العالم الإسلامي أسراً كثيراً حكمت شعوباً مسلمة مختلفة، ولقرون طويلة، باسم الدين، ثم لما ثارت الشعوب ضدها، وفقدت «سلطتها الدينية»، جاء بعض أبناء هذه الأسر يبشرون بالعلمانية، لا إيماناً بها، وإنما لأن الدين لم يعد يوفر لهم الامتيازات التي يمكن أن يجنوها من ادعاء العلمانية. وهنا لا تختلف الفئة الطفيلية التي تسعى إلى «تسييس العلمانية»، عن الفئة النفعية التي تسعى إلى «تسييس الدين»، لأنهما مجرد وجهين لانتهازية واحدة.
مقال للكاتب في «القدس العربي»
في السبت 15 إبريل-نيسان 2017 08:27:34 م