ستوكهولم: الطريق الصعب للسلام في اليمن
خالد حسين اليماني
خالد حسين اليماني

في الثالث عشر من ديسمبر من العام الماضي 2018، وفي طقس شديد البرودة، التقى ممثلو الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين في منتجع "جوهانسبرغ" القريب من العاصمة السويدية ستوكهولم، لإعلان نتائج المشاورات التي التأمت خلال الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر والمتصلة بتدابير بناء الثقة.

كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ النزاع التي يتفق فيها الجانبان على الالتزام بجهود الأمم المتحدة المستمرة للسلام بعد أن توقفت لأكثر من عامين بعد فشل مشاورات الكويت في أغسطس 2016.

التوافقات التي توصلنا إليها في مثل هذا اليوم من العام الماضي شملت موانئ ومدينة الحديدة، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، ورفع الحصار عن مدينة تعز. فيما لم يتم التوصل إلى توافقات بشأن الملف الاقتصادي أو فتح مطار صنعاء على الرغم من مناقشته المستفيضة، حيث كان من المؤسف أن الحوثيين لم ينخرطوا بجدية لانجازها.

واليوم، تتضاعف خيبة الأمل لأنه لم يتحقق أي شيء بعد من التوافقات التي توصلنا إليها في السويد، فلم تغادر الميليشيات الحديدة، وما زالت الممرات الإنسانية وعمليات الإغاثة تُنهب في المناطق التي يسيطر عليها أمراء الحرب الحوثيون، ولم يُفرج عن الأسرى والمعتقلين، بل إن قضيتهم باتت سلعة للمقايضة بيد المتمردين.

وبقيت تعز تئن تحت وطأة الحصار الظالم. وفي الأسابيع الأخيرة، استأنف الحوثيون قرصنتهم ضد الممرات البحرية الدولية في جنوب البحر الأحمر فيما تواصلت عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية النوعية عبر الساحل الغربي لليمن.

واليوم بعد مرور عام على اجتماع ستوكهولم، كل ما تمكنت الأمم المتحدة من إنجازه من خلال بعثة الأمم المتحدة لتنفيذ اتفاق الحديدة، UNMHA، يتلخص في إقامة خمسة مراكز مراقبة لوقف إطلاق النار في الحديدة بكلفة باهظة حيث تجاوزت تكلفة عمليات الأمم المتحدة في الحديدة للعام الماضي 58 مليون دولار.

في مراسم الافتتاح، كانت كلمات معالي السيدة مارجوت والستروم، وزير خارجية السويد السابقة، مليئة بالدفء، فقد قارنت بشكل مجازي بين الطقس السويدي القارس والترحيب الحار الذي حظي به اليمنيون، متمنية لنا كل التوفيق في التوصل إلى اتفاق يؤسس لأرضية صلبة للسلام، وينهي الحرب والبؤس الإنساني للشعب اليمني الذي هو اليوم على رأس قائمة أفقر الشعوب على وجه الأرض.

وحينما وصلت إلى ستوكهولم برفقة الفريق الحكومي المفاوض، كنا أبعد ما نكون عن التفاؤل بعد أن قضينا أسبوعًا في بداية شهر سبتمبر 2018 في انتظار انضمام وفد الحوثي إلينا في جنيف مما أصابنا بالإحباط، ولم نكن متفائلين بأن اجتماع ستوكهولم سيكون أكثر نجاحًا. لم تكن مشاورات ستوكهولم في رأيي، واعدة - خاصةً عندما تعرض الضغط العسكري على الحوثيين للانهيار بسبب الهدن المتكررة للعمليات العسكرية في جبهة الحديدة.

باعتقادي أنه لو أن العملية العسكرية التي بدأت في يونيو 2018 في محور الحديدة، كانت قد حققت أهدافها الإستراتيجية، كان يمكن لها أن تُحدث تحولا في ديناميكيات الحرب في اليمن وما سيليها من محادثات السلام النهائية، خاصة إذا ما أدركنا أهمية الحديدة باعتبارها شريان الحياة للإمدادات الإيرانية للمتمردين الحوثيين.

وكان قرار "النوايا الحسنة" للتحالف لإعطاء السلام فرصة، حاضراً في ستوكهولم وكان جزءًا من جهد أكبر من قبل المجتمع الدولي، لكن هذا الجهد لم يؤخذ على محمل الجد من قبل إيران وعملائها في اليمن. بالنسبة لي، كانت الحديدة بداية النهاية، وهزيمة الذات، وهدية لإيران ووكلائها في اليمن.

وهكذا بلغت الجهود العسكرية في اليمن ذروتها. واليوم بعد عام واحد، لا تبدو مبادرة الحديدة كما كان يتوقع لها في البداية. لقد وصلت الحرب في اليمن اليوم إلى لحظة من المراوحة ولم يعد من خيار أفضل من إيجاد مخرج لها.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن مقاربة المملكة العربية السعودية قائدة التحالف، في محادثات السلام في السويد كانت صادقة في بحثها الدائم عن السلام في اليمن. فمنذ اليوم الأول من حرب اليمن، كانت القيادة السعودية شديدة الوضوح في مواقفها تجاه اليمن من حيث تأكيدها على حقيقة أن المملكة ليس لديها طموحات توسعية تجاه اليمن، وأن التسوية السلمية -وليس الحرب- هي الحل لمشكلة اليمن، وأن السلام في اليمن يجب أن يضمن استقرار و ازدهار اليمنيين وجيرانهم. كانت ستوكهولم خطوة أخرى اتخذها السعوديون نحو هذا المسعى الدائم.

كان واضحًا في ستوكهولم أن الاتحاد الأوروبي والحكومة المضيفة بذلا جهودًا كبيرة لإقناع إيران بمنح السلام فرصة في اليمن، وقد أبلغنا أن إيران ألزمت الحوثيين بقبول نتائج المشاورات. ومن هنا يمكننا اليوم أن نؤكد أن إستراتيجية الحوثي التفاوضية استندت إلى حملة ”علاقات عامة“ لتعزيز صورة المتمردين على عكس الجهد التفاوضي الكبير الذي أبداه المفاوض الحكومي والذي كانت التوجيهات لدية تقضي ببذل المزيد من المرونة بهدف التخفيف من المعاناة الإنسانية الكارثية التي يعيشها الشعب اليمني يوميا.

على سبيل المثال، كان مقترح فتح مطار صنعاء عبر مطار عدن وما يزال، اقتراحًا هامًا للغاية، من حيث التزامه بمبادئ السيادة والقانون الدولي. ولكن لسوء الحظ، تم رفضه من قبل المتمردين. اليوم، ما يزال هذا الاقتراح على الطاولة.

لقد كانت النوايا الأوروبية في ستوكهولم صادقة لأن الهدف كان إنهاء أحدى الصراعات الكبرى في الجوار الأوروبي المتوسطي. إلا أن إيران - من خلال وكلاءها الحوثيين، كانت ومازالت تسعى جاهدة لإضعاف نظام العقوبات الأمريكية والإفلات من العقاب الدولي جراء سياساتها العدوانية في المنطقة. بعد شهر من اجتماع ستوكهولم، أعلن كبير المفاوضين الإيرانيين مع الاتحاد الأوروبي أن بلاده قدمت تنازلات في الموضوع اليمني ولم تحصل على شيء في المقابل.

بعد تأكيدات من المجتمع الدولي وحلفائنا وأصدقائنا، وبعد التزامات ووعود من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، وافقت الحكومة اليمنية على مخرجات استوكهولم نظرا لاقتناعها بجدية المجتمع الدولي في التعامل مع موضوع الحديدة.

واليوم يتضح جليا أن مبادرة الحديدة ما هي إلا فرصة ضائعة. على صعيد شخصي، تعرضت لانتقادات شديدة من قبل بعض الناشطين الحكوميين الذين حملوني المسؤولية عن "اتفاق غير مكتمل" على الرغم من حقيقة أن القرار يعود الى قيادة الحكومة وهي من وافقت على مخرجات استوكهولم، ولم أكن ألا مجرد كبير المفاوضين.

جدير بالذكر أن الوفد الحكومي كان حريصا في التأكد من أن أي تفاهمات نخرج بها ستلتزم بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والسيادة والدستور والقوانين اليمنية النافذة ولن تقوض دور الحكومة اليمنية باعتبارها أداة حماية المصالح الحيوية الإستراتيجية العليا لليمن. حتى المصافحة التي رافقت الإعلان عن نتائج مشاورات استوكهولم مع ممثل الحوثيين لم تمر دون نقد، لأنه بتقديري فإن صوت معسكر الحرب ما يزال أعلى من صوت معسكر السلام.

كنت أدرك في تلك اللحظة، أنني انتهكت أحدى المحرمات في قاموس "التشدد السياسي"، لكن الإنسان الذي بداخلي أراد أن يبعث برسالة إلى جميع اليمنيين - بمن فيهم المتمردون ، بأن ”كفى“، وأردت أن أقول لمحمد عبدالسلام، إنه أخي على الرغم من كل المآسي التي سببها التمرد الحوثي لليمن وشعبه. واليوم بعد مرور عام على تلك المصافحة، يزداد المشهد اليمني مأساوية، ويزاد أمراء الحرب تغولا، وتزداد بلادي اليمن تشظيا.

خلال العام الماضي، كانت الحكومة اليمنية منفتحة على العديد من الأفكار المختلفة التي طرحها المبعوث الخاص للأمم المتحدة للتغلب على العقبات في تنفيذ اتفاق الحديدة لتحويله إلى مثال حقيقي لتدابير بناء الثقة. ويمكنني تعداد الكثير من المقترحات التي قدمتها الحكومة، لكنني سأكتفي بذكر فكرة تشكيل اللجان الثلاثية في الحديدة للتغلب على العقبات في الجوانب العسكرية والأمنية والإدارة العامة وموارد فرع البنك المركزي في المدينة.

وبتقديري فان رؤية العمل الثلاثي المترسخة في صميم اتفاق الحديدة بين الحكومة والمتمردين والأمم المتحدة، في حال ما تم بلورتها ضمن إجراءات بناء الثقة كان يمكن ان تحدث فرقا وكان يمكن لها أن تؤسس لسابقة في النهج الشامل لاتفاق السلام في اليمن.

هذا هو تقييمي لموقف المتمردين. أعتقد أن الحوثيين لم يكونوا مستعدين في ستوكهولم، وأن التعليمات الإيرانية للمتمردين لم تكن سوى خطوة ”علاقات عامة“ كما أصبح جليا فيما بعد. في الواقع لم يغير الحوثيين نهجهم نحو اتفاق السلام، من حيث أن موقفهم العقائدي كان وما يزال مشابهًا لمفهوم ”حزب الله“ في استيعاب الخصوم ضمن نظرية الحاكمية الثيوقراطية الاستبدادية ورفض مرجعيات السلام التي تحظى بدعم واسع من الشعب اليمني، ومجلس الأمن الدولي، والمجتمع الدولي، وبالتحديد مبادرة مجلس التعاون الخليجي، ومخرجات الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالشأن اليمني بما في ذلك القرار 2216.

فلماذا يجب أن يوافق الحوثيون "المنتصرون" استنادًا إلى النظرية المتطرفة الإيرانية المتمثلة في "المقاومة الإسلامية" على صفقة لن يكونوا هم فيها الأعلون؟ من وجهة نظري، فإن المخرج في اليمن يتلخص بتظافر الجهد الدولي ضد أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة بما يحد من نفوذها في لبنان والعراق وبالتالي يؤدي إلى السلام في اليمن. وتزداد الغطرسة الإيرانية وعدم احترام المعايير الدولية، ففي الآونة الأخيرة، يشير تعاملها مع المقرات الدبلوماسية اليمنية في طهران إلى مظهر آخر من مظاهر الدولة المارقة.

الأمم المتحدة كانت جهودها محورية قبل وأثناء وبعد اجتماعات استوكهولم، بعد سنوات من المحاولات المستمرة لكبح جماح التدهور في مسار الأزمة اليمنية ووضع نهاية للحرب اليمنية، وكان اتفاق السويد خلاصة جهود بدأها المبعوث السابق للأمم المتحدة، الأخ العزيز على قلوب اليمنيين وزير خارجية موريتانيا إسماعيل ولد شيخ احمد، وتواصلت مع السيد مارتن غريفثس.

وفي واقع الحال فان أداء أجهزة الأمم المتحدة في اليمن كان متفاوتا، فمن جهة كان أداء برنامج الغذاء العالمي ومديره التنفيذي السيد ديفيد بيسلي شجاعا في الدفاع عن القانون الإنساني الدولي وحق كل اليمنيين في الوصول إلى المساعدات الإنسانية ضد المليشيات الانقلابية التي عملت وتعمل على سرقتها، في المقابل عملت بعض وكالات الأمم المتحدة على تقديم الدعم للمتمردين وتسهيل التمويل الدولي دعما لبروباجندا الحرب الحوثية في القطاع التربوي. كما حاولت وتحاول بعض وكالات الأمم المتحدة القيام بدور الحكومة اليمنية، الأمر الذي تصدت له الحكومة اليمنية بقوة.

وفي ضوء الخبرات التي جمعناها خلال عام بعد السويد، ينبغي أن نثني على جهود السيد غريفثس الذي لم يألوا جهدا في البحث عن كافة البدائل لإحداث اختراق في الملف التفاوضي الرئيسي، على الرغم من المحاولات المتواصلة لإبقائه حبيس ملف الحديدة الذي تحول إلى ما يشبه الثقب الأسود في الأزمة اليمنية، والذي قال عنه السيد غريفثس مؤخرا في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية إن ملف الحديدة لم يكن سوى ”اتفاقا إنسانيا لسد ثغرة قائمة وليس شرطا مسبقا لانطلاق العملية السياسية وهو يتضمن إجراءات محددة لبناء الثقة ترمي لتعزيز عملية السلام وليس تعطيلها“، وربما أضيف إلى ذلك تأكيدي أن تجربة بناء الثقة في الحديدة قد تجاوزتها الأحداث الأخيرة وصار لزاما علينا اليوم النظر إلى الأمام، ووقف الحرب والدخول في مفاوضات شاملة حول الإجراءات الأمنية والسياسية بناء على المرجعيات الثابتة للسلام في اليمن.

تم التعبير عن رؤية السلام في خارطة الطريق المؤلفة من سبع نقاط والتي نشرها السيد غريفيث في 10/16/19 في صحيفة نيويورك تايمز، وهي تنطلق من وقف الحرب في اليمن، وتدعو إلى تمكين مؤسسات الدولة في اليمن، وإعادة احتكار استخدام القوة إلى الحكومة اليمنية، وعدم السماح لأي تشكيلات خارج الدولة باستخدام العنف لتحقيق غاياتها، واستبدال المليشيات التي تقاتل على ارض اليمن بسلطة الدولة الحصرية.

وأن تكون الحكومة شراكة شاملة بين كافة الأحزاب السياسية التي تتخذ الآن مواقف متفاوتة، كما يتوجب على الحكومة اليمنية ضمان عدم استخدام بلادها للهجمات على الجيران من خلال اتفاق بين قادة اليمن الجدد وجيران اليمن. وينهي السيد غريفثس عناصر رؤيته بأن لا حاجة للتدخل في شؤون اليمن من قبل أي جهة وان على اليمنيين بعد وقف الحرب البحث عن أفضل السبل للعيش المشترك.

أخيرًا، عندما انظر إلى دروس ستوكهولم بعد عام من تلك الرحلة السويدية، وحينما نستخلص العبر من نواقص تلك التجربة وننظر إلى الأمام ولا نلوي عنقنا إلى الخلف، فانه يجدر بنا تحديد الخطوط الحمراء في الصراع اليمني التي أرى أنها آخذة في التبلور. فثمة حاجة ملحة بأن يبدأ السيد غريفيث من فوره مشاورات سياسية بين الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين.

كما يجب أن يمر الطريق الوحيد للبحث عن السلام في اليمن عبر قنوات الأمم المتحدة ووفقًا لمرجعيات الحل المعروفة، وأي محاولة لتقويض جهود الأمم المتحدة أو إنشاء مسارات موازية ستعيق فرص السلام وتجعله بعيد المنال. ومن خلال تجربة السنوات الماضية فإنني أكاد أجزم أن أي حل يتم إملاءه على الحكومة اليمنية أو يسعى لتقويض مؤسسات الدولة اليمنية لن تكتب له فرص النجاح وإنما سيسهم في مزيد من تفتيت اليمن، مما سيؤثر على السلام والاستقرار في المنطقة برمتها.

أخيرًا ، يجب أن يكون مفتاح حل الأزمة اليمنية هو التركيز على إصلاح وتعزيز وتنشيط الحكومة اليمنية كشراكة شاملة وليس تقويضها، فحكومة اليمن هي ما تبقى من سيادة البلاد.


في الجمعة 13 ديسمبر-كانون الأول 2019 10:07:20 م

تجد هذا المقال في سهيل نت
https://suhail.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://suhail.net/articles.php?id=535