|
لئن تحررت البيضاء فقد توقفت قناة سهيل، وهذا يكفي لمنح الحوثيين اتزانا نفسيا، وتماسكا في المعنويات مع شحنة طاقية من العزاء الإيجابي وحسن المواساة والسلوان لهزيمة كبيرة، لكنها جرت بصمت.
ستقولون إن توقف قناة سهيل ليس بالقدر الذي يهب الحوثيين سعادة غامرة تسد مسد مرارة الهزيمة الخاسرة، فشتان بين الشاشة والميدان، كما أن الحوثيين لا يفهمون إلا أصوات البنادق ولا يتكلمون غير لغتها.
ولكني، وهذه وجهة نظر شخصية، أرى أن خبو سهيل اليماني مبهج للحوثيين أكثر مما تظنون، لأن المشروع الحوثي الكهنوتي بإمتدادته في الإمامة الثيوقراطية القمعية إلى الجذر الرسي، المرجع الأعلى لسلالة التسلط اللاهوتي هو في أساسه مشروع إعلامي، تعبوي، دعائي، قبل أن يكون مليشيا إرهاب مسلح، وحرابة عنف منظمة.
وفي حكاية سنين، يسرد الشاعر الرائي في اليمن الأعمى عبدالله البردوني، هذه البروباجندا الإعلامية للخطاب الأحادي المتطرف الذي يمحو كل خطاب آخر بـ"سود الصحائف" أولا، وإن لم فبحد "بيض الصفائح" على رقاب المعارضين.
يقول البردوني عن هذه النقطة:
والله والإسلام في أبواقهم بعض الدعاية
أيام كانت للذباب على الجراحات الوصاية
وهنا نستشف وعيا مبكرا ومتجذرا لدى طواغيت الإمامية بأهمية الإعلام الدعائي متعدد الأبعاد، والذي تمثل قيمة التضليل الديني بعض دعايته، أما الأبواق فقد أسس الرسي أول جيش من الذباب التقليدي الممول بسخاء، من خزينة المطبخ العالي، لصناعة القناعات العامة، ووصل الحد بالشعب المخدر والمقطرن لليقين بأن جوعه هو تضحية في سبيل الله وأبنائه المختارين.
وعلى مدى ست سنوات وأشهر، أدارت مليشيا الحوثي التي نطلق عليها "جماعة الكهوف" إشارة إلى بدائيتها خمس قنوات رسمية "وطنية" مغتصبة، بتمويل دافق وحرفية دعائية عالية، مستفيدة من الأرشيف البرامجي الهائل الذي سطت عليه من دولاب التاريخ التلفزيوني والإذاعي في صنعاء.
لم تتوقف هذه القنوات لدقيقة واحدة عن البث، بما في ذلك القناة التعليمية التي افتتحت حديثا ما بعد ثورة فبراير السلمية، كما استفاد الحوثيون أيضا من عجز الشرعية عن إيقاف هذه القنوات بمسمياتها التي تعد حقا فكريا للدولة، لتزيد الطين بلة بافتتاح شاشات اشتقاقية تحمل ذات الاسم والعلامة الإعلامية، في عملية تشويش لذهنية المشاهد اليمني وتشتيت تركيزه.
أضف إلى أن قناة "الشرعية"، "للدوشان البخيتي"، منحت مليشيا الحوثيين فارق قوة وامتيازا متفوقا في معيارية المقارنة بين إعلام الطرفين، حيث لا تجوز المقارنة.
ومن منهوبات الأموال العامة والأهلية، تنفق مليشيا الحوثي على قنواتها الإعلامية المغتصبة والخاصة مليارات الدولارات، يظهر ذلك في كثافة المنتج التلفزيوني من مسلسلات وبرامج وأفلام وثائقية وتنوع هذه البرامج بين الدينية والسياحية والفكرية والسياسية والثقافية والفنون الشعبية والتراث والرياضة.
وتوثيق سير قتلاها في الجبهات، وتوثيق ما تطلق عليه جرائم العدوان، واستدعاء الأحداث التاريخية التي تريد أن تؤكد من خلال إعادة تمثيل مشاهدها بأرقى تقنيات المونتاج والإخراج السينمائي على عدوانية السعودية التاريخية تجاه اليمن.
وفي كل عام تنتج مليشيا الحوثي فيلما وثائقيا عما تقول إنه مجزرة سعودية ارتكبت بحق حجاج يمنيين تعرف بـ"مجزرة تنومة".
والعجيب أن الحوثيين يخصصون موازنة مليارية مستقلة للزوامل الحربية، التي يتم مسكجتها وإنتاجها على أحدث التقنيات الصوتية والمرئية في استديوهات خارجية ذائعة الصيت عالميا.
كما أن كل قناة حوثية لا تستعير ولا تقتبس من القنوات من الأخرى برامجها، فلكل قناة منتجها البرامجي الخاص، ما خلق تنافسا بينها، يسقيه مال غزير وفير.
أما عيسى الليث، فيعيش بحبوحة ملكية وأبهة مهنجمة لم يكن ليحظى برائحتها لو أنه زومل للشرعية أو لنصف قرن من اليمن الجمهوري.
وفي تقرير صحفي كنت نشرته عن حرب الزوامل بين الحوثيين والشرعية، قال قناف المعظي، الذي يزومل للشرعية، ويمتلك إمكانات أفضل بكثير من عيسى الليث، وخامة صوتية أجود، إنهم يعتمدون في إنتاج زواملهم على جهودهم ونقودهم الذاتية، ولا يتلقون ريالا واحدا من الشرعية.
وهناك مسلسل الإمام الهادي، على قناة المسيرة، الذي يؤنسن وجه يحيى بن حسين الرسي، دراكولا اليمن، وهو مسلسل كرتوني للأطفال يقوم على تشكيل عجينة عقول الناشئة على الهوى الحوثي، ويظهر هذا المسلسل مدى الإنفاق الحوثي السخي لتمويله، في حين عجز ستة رؤساء جمهوريون عن تمويل مشروع واحد من هذا النوع.
ونعود إلى قناة سهيل، التي ولدت من قلب الحدث الثوري العاصف في عام الربيع، ولولاها لما شاهد العالم أكثر من 60 شهيدا و500 جريح يذبحون في مجزرة جمعة الكرامة.
هذا كنموذج على أن حضور قناة سهيل مع بزوغ عهد وانقضاء آخر، يجعل منها قناة يمنية تاريخية، أي أن قيمة وجودها ترتبط أساسا بالهوية التاريخية للبلد، وهي أول قناة فضائية معارضة، وهي الشاهد الوثيق على مرحلة تحولات هامة، والصوت المعبر عن إرادة الشعب اليمني، بهمومه وتطلعاته.
تعرضت سهيل لحرب شعواء من الحوثيين، الذين أحرقوا مقراتها واحتلوا المبنى تلو الآخر، ونهبوا كل شيء حتى سيراميك الحمامات ومشاجب الثياب.
وقد توقفت القناة غير مرة، لكن سهيل اليماني كان ما يلبث أن يعود ألمع وأنصع، وأرصن أداء وخبرة في الخطاب الإعلامي.
كما تحررت سهيل من كل إملاءات الخطاب الحزبي الخاص، وانفتحت على الجميع، وظلت رفيق الجندي في الجبهة والمرأة في البيت والناس في القرية والمدينة والوطن والمهجر والساحل والسهل والجبل.
ولو أن دراسة مسحية استقصائية تقوم على الدقة والحقيقة لخلصت إلى أن قناة سهيل، هي الأكثر مشاهدة في مناطق السيطرة الحوثية منذ بداية الحرب، ولا يقتصر ذلك على رمضان وجماهيرية "الأضرعي".
ويحسب للسعودية موقفها التاريخي وجهدها المشكور، وقد فتحت صدرها للقناة لتحلق بعد توقف من استديوهاتها، وقدمت القناة خطابا يمنيا وطنيا صرفا، انحاز كليا إلى إرادة الشعب اليمني، حتى لو أضر ذلك بمصالح حزب الإصلاح السياسية، أو دفع بالقناة إلى رحلة تشرد جديد.
تجرأت سهيل وفتحت ملفات صمتت عنها القنوات التابعة للشرعية، وكلما مر الزمن اتضح جوهر سهيل اليماني أكثر في كونه الناقل الفضائي صوت كل اليمنيين وصورة ما يحدث لحظة بلحظة.
هذا الصوت الجمهوري الصادح من حنجرتنا اليمنية يراد له حاليا أن ينطفئ، حتى لا تكون للشعب اليمني راية ولسان، وهذا ما سيفشله حتما موقف الإسناد الشعبي الداعم للقناة، وسترون.
أما الحكومة، وهي تفرط بسهيل اليماني، فقد فرطت ببلد من قبل، و"لا يبلغ الأعداء من جاهل.. ما يبلغ الجاهل من نفسه".
في الخميس 08 يوليو-تموز 2021 08:14:09 م