|
اخترع الطغاة والمستبدون مصطلح "المنافي المريحة"، ليبرروا استبدادهم وقمعهم لمعارضيهم.. طاردوا معارضيهم وحكموا عليهم بالموت، والسجون، والنفي، ومصادرة ممتلكاتهم، وتفجيرها، ثم أخذوا يشوهونهم بالتلفيق بأنهم يعيشون في منافي مريحة بالمقارنة مع حياة الشعوب التي تسلط عليها هؤلاء الطغاة وأفقروها ونهبوها وسرقوا أحلامها ودمروا مستقبلها.
تكتم الطغاة على الأسباب التي جعلت الحياة في البلاد التي يحكمونها بهذه المعاناة التي تبدو معها المنافي، بكل ما يعتورها من قسوة ومعاناة وحزن وابتلاء، ملاذاً عند مغادرة أوطانهم، وراحوا يقارنون بين معاناة الناس في الداخل وكيف أنهم صابرون ومحتسبون، بينما أصحاب المنافي يعيشون في عيش رغيد، كل ذلك بهدف تحويل المعركة إلى مسار مختلف بعيداً عن جذر المشكلة التي تتمثل في الطغاة والفاسدين الذين تسببوا في معاناة الجميع.
وبدلاً من توحيد الجهد لمقاومة هؤلاء المتسببين في معاناة الصامدين والمنفيين معاً، فإن الخطاب الذي كان يسوق دائماً يقوم على تعبئة الصامدين ضد المنفيين، وهو الخطاب الذي يسوقه المنتفعون من النظام على حساب المقهورين والمشردين.
لقد انطوى هذا الخطاب على تزييف الحقائق فيما يتعلق بالمنافي، الأمر الذي كثيراً ما انطلى على المتعبين والمضطهدين الباقين في وطنهم ممن كانوا في الأساس ضحية هؤلاء الطغاة.
لا يوجد منفى مريح.. المنفى هو المنفى، لا يضاهي الوطن شيء في هذه الدنيا، ولا توجد قوة على الأرض قادرة على انتزاع الوطن من أعماق الإنسان.. تشرد الكثيرون وحملوا أوطانهم في أعماقهم وفي ضمائرهم، وعملوا على استعادته بكل الوسائل.
لا ننكر أن هناك من جعل المنفى وسيلة لضرب القيمة الكفاحية للإنسان في التمسك بوطنه، وهؤلاء قلة، يشبهون في سلوكهم ووظيفتهم ما يقوم به أصحاب الخطاب الذي يروج للصدام بين المقهورين والمتعبين في أوطانهم والمنفيين عنها، وهو أمر لا يشفع لمن يريد الإساءة لأولئك الذين تركوا أوطانهم مجبرين ومطاردين.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالخطاب الذي يعمل على سحق المنفيين، وإلغائهم من ذاكرة الوطن ليقذف بهم خارجه إلى الأبد، يطلق، بدرجة كبيرة من خلال تطبيق سيكولوجيا المعرفة الإعلامية التي تقلب الحقائق، في وجه المشرد والمطارد من وطنه بحكاية عجزه عن استرداده بقوة السلاح، في عنوة ظاهرة لتمجيد الحروب التي تحيك مفرداته وتصوغها على ذلك النحو الذي يستضعف كل أشكال المقاومة الأخرى للاستبداد، ويتجاهل حقيقة أن الذين قمعوا أحلام الشعوب بقوة السلاح، و"انتصروا" بالحروب لم يكونوا سوى ظاهرة مؤقتة، ولم يكونوا الأفضل، ولو كانوا كذلك لكان حال اليمن غير ما هو عليه اليوم.
دورات الانتصار في الحروب في اليمن كثيرة، لكنها لم تخلق يمناً مستقراً وسعيداً حاضناً لأبنائه، بل كانت باعثاً للبحث عن المزيد من المنافي. لم تكن الحروب تحمل مشروعًا للحياة، بقدر ما ظلت حبلى بالانتقام والانتقام المضاد، وبين ثناياها تختبئ مشاريع استبدادية فاسدة كانت تنتهي بالقتل والخراب وإنتاج المزيد من الدمار.
مقاومة هذه الحروب الغاشمة لن يكون بحرب غاشمة من نفس النوع وإنما بمشروع وطني شامل يكون السلاح والقوة جزءاً منه، ولن يصلح حال اليمن إلا بهزيمة الحروب الغاشمة ومدمنيها القادمين من أصلاب مشاريع وأيديولوجيات مغلقة ومفلسة، ويدركون أنهم يقفون في الاتجاه الخطأ من التاريخ، وأن التوافق على أسلوب مشترك للحياة، تحميه إرادة الجميع، هو الطريق إلى الاستقرار والحياة الكريمة، وسيكون الوطن، مهما كانت مصاعبه، هو المقر المريح، لا المنافي، الذي يجد فيه الإنسان سعادته.
في الإثنين 04 يوليو-تموز 2022 08:29:56 م