آخر الاخبار

الرئيسية   أخبار وتقارير

قصة طالبة في تعز..
الطفلة أروى.. الحلم الضائع في عراء الحرب الدائرة

الجمعة 01 يناير-كانون الثاني 2021 الساعة 09 مساءً / سهيل نت - خاص - محمد يوسف

لم يكن نبض قلبها عاديا هذا اليوم.. جلوسها على كرسي الدراسة كان مختلفاً.. حضورها في الدرس كحضور عصفورة في حقل طيور جارحة.
فبدون سابق إنذار، جاءت المعلمة فاطمة، وأخذت من الفصل الدراسي، الطالبة أروى، التي كانت تدرس قبل سنوات، في الصف الرابع الابتدائي، بإحدى مدارس منطقة "الصلو"، في محافظة تعز.
الطفلة أروى تحكي قصتها:
أخذت المعلمة فاطمة بيدي، ودخلت إدارة المدرسة وتحدثت مع إحدى المعلمات حديثا لم أفهم منه، إلا أنه يعنيني، ولا تريد أن أعرفه.
خرجنا من إدارة المدرسة، ومن "المقصف" أخذت المعلمة قارورة ماء وأعطتني كي أشرب.
كانت خطوات ثقيلة وبعيدة، فلا يؤخذ الطالب إلى الإدارة، إلا لخطئ كبير، لكنني خرجت من الإدارة دون عقاب أو ثواب، إذن يبدو أن العقاب سيكون في البيت.. عند أمي.. لكن: ما الخطأ الذي اقترفته اليوم أو أمس أو قبلها؟!
تفكير عميق شارد لم يقطعه إلا ملاحظات وجود رجال ونساء كثيرون جوار بيتنا، وعلى مقربة منهم سيارة تقف منتظرة.. أسرعت الخطى وأسرعت معي المعلمة.
عند وصولي رأيت الناس ينظرون إلي نظرات مختلفة عن ما أظن، فلا هي نظرات عتاب، ولا نظرات غضب.. تجاوزتهم وهربت من نظراتهم نحو البيت.
دخلت بيتنا.. ومن النظرة الأولى توهمت أنني في بيت آخر.. فقد وقعت عيني على بقع دماء متطايرة في أماكن مختلفة من المنزل.. وعلى جانب من الممر ملابس أبي.. نعم ملابس أبي أعرفها كما أعرف أبي.. وعلى الملابس دماء.. حاولت الاقتراب لأدقق النظر.. يدي اليسرى تمتد نحو ملابس أبي، ويدي اليمنى في يد خالتي زعفران التي تلقفتني بسرعة لتبعدني عن ملابس والدي.
"لا تفتجعي"، هكذا قالت لي خالتي، وأخذتني إلى إحدى الغرف.. وفي تلك اللحظة بدأت أبكي.. لماذا؟ لا أدري.. لكنه القلب الذي عرف ما لم تعرفه عيني، والشعور الذي أحس بما لم تدركه يدي، أبكي والنساء يبكين بجواري، بكاء لم أستطع معه أن أسمع أو أفهم أو أسأل عن السبب.
لمحت عيني من النافذة جيراني وهم يحملون شخصين خارجين بهما من البيت إلى السيارة المنتظرة، وكلما حدقت أكثر لأتبين كانت خالتي تمسك بي بقوة، وتحاول إبعادي عن النافذة.
قليلا قليلا خف البكاء.. وهدأ الناس، لكن مشاعري لم تهدأ، وأسئلتي لم تنته.. لكن ما أخفوه عني لم يكن ليختفي، فأبي لم يعد من الحقل، وأمي ليست في البيت! أين هما إذن؟
مضت أيام وأنا في انتظار أمي وأبي.. وذات يوم لمحت ناساً من بعيد، انتظرت حتى اقتربوا، فإذا هما عمي وخالي وفي أيديهم الكثير من العلاجات، وشخص ثالث يمشي على عكازين، حدقت أكثر فإذا هي امرأة، لكنها ليست أمي.. لا.. هذه ليست أمي، فليس هناك أي شبه، فالملامح كلها مختلفة.
أروى.. هكذا نادتني.. الصوت صوت أمي.. لا يمكن أن تكون هي أمي.. تكلمت معي فعرفت أنها أمي، لكنها مختلفة.
ما الذي حدث؟ وأين أبي؟
عرفت أن صاروخاً حوثيا سقط في جوار منزلنا، وقتل أبي، وأصاب أمي، إصابات بليغة، أفقدتها أطرافها، وشوهت وجهها، وغيرت ملامحها، وأقعدتها عن الحركة.
البيت لا يفرغ من الزائرين، والطعام يأتينا مع كل وجبة، لكنها أيام وانحسر كل ذلك الاهتمام.
أيام، وإذا بي أقف وحيدة جوار أمي العاجزة تماما عن القيام بأي عمل، والمحتاجة إلى رعاية واهتمام خاص.
لا تهمني أعمال المنزل، ولا رعاية أمي، كل ذلك يهون أمام المصيبة الكبيرة، لقد قررت ترك المدرسة مجبرة، فأعمال المنزل ورعاية أمي مهمة لا يمكن التوفيق بينها وبين الدراسة.
كنت أحلم أن أكون دكتورة كالدكتورة "خديجة" التي تعالج والدتي.
كان الحلم أشبه بحقيقة تنتظر الوقت فقط، فأمي وأبي يدعماني في الدراسة.
طار الحلم وضاع الأمل، ولم يبق لي من دراستي إلا مشاركة زميلتي "حنان" هواء الصباح عندما أقف أمام الباب أنا وهي قليلا قبل ذهابها إلى المدرسة.. زميلتي التي كانت تمر علي لنمضي سويا إلى المدرسة، اليوم هي تمضي وأقف أنا جوار البيت أتبعها بنظري حتى تغيب.
تغيب زميلتي عن ناظري، لكنها لا تغيب عن خيالي، فأنا أتخيلها في طابور الصباح وهي تتعلم النظام والنظافة، وتتدرب على الإذاعة المدرسية، وفي الفصل تتلقى الدروس وتتعلم الجديد، وتخرج في الراحة لتلعب مع صديقاتها وتمرح ثم تعود إلى كرسي الدراسة لتواصل يومها الدراسي حتى يرن جرس العودة إلى البيت.
أتخيلها وأتذكر نفسي يوم كنت مثلها، وكيف أصبحت مشغولة بأعمال البيت طول اليوم، فمنذ الصباح وأنا أرتب الفرش والبطانيات وأرفعها إلى سطح البيت لتعريضها للشمس، ثم أتجه إلى جلب الماء، وفي الطريق أمشي وأنا أردد "واحد اثنين ثلاثة أربعة"، أتخيل وكأنني مع زميلاتي في طابور الصباح، وأردد النشيد الوطني "رددي أيتها الدنيا نشيدي".
وبعد جلب الماء، أتجه إلى غسل الملابس وتنظيف البيت وعمل الفطور لي ولأمي، وخدمة أمي بما يلزم.
ليس لي خيار آخر، ولا يمكن أن أعود إلى المدرسة، فأمي على الفراش، والأهم من ذلك أنها في كل لحظة تناديني، إما لإعطائها شيئاً أو لمساعدتها على الحركة في الفراش، أو لمجرد الجلوس معها، فالفراغ وطول الوقت يزيدها ضيقا ومللا، والأهم الأهم أن حالتها النفسية تغيرت كثيرا، وأصبحت حادة الطبع تنزعج من أي شيء، ولا تعرف ما تريد.
أسعد أوقاتي عندما تأتي جارتنا "أم حنان" مع ابنتها صديقتي لزيارة أمي عصراً، حينها أسترق لحظة سعادة وأجلس مع صديقتي وأسألها عن المدرسة بكل من فيها، عن صديقاتي، وعن المعلمات، وعن بائعة البطاط والبيض.
أسألها عن الثلاث الكراسي والتي لا يوجد غيرهن في فصلنا رغم أن الفصل مزدحم بأكثر من ستين طالبة، وهل يتسابقن على الجلوس على الثلاث الكراسي كل يوم.
ولا أنسى أن أسألها عن صديقتي "أحلام" التي تعرضت لشظية قذيفة بترت يدها اليمني، أسألها كيف أصبح حالها وكيف تمسك القلم، وهل تكتب باليد اليسرى، وكيف خطها الذي كان جميلاً حين كانت تكتب باليد اليمنى، وكيف تحمل حقيبتها المدرسية؟
أنزوي في الليل في زاوية المنزل خائفة، وأنا أسمع دوي الانفجارات، وأصوات الرصاص.
الحياة كئيبة، فلا يكاد يمر يوم إلا وأبكي فيه أكثر من مرة.
حياتنا صعبة، وظروفنا قاسية، بعد موت أبي وإصابة أمي، فقدنا وافتقدنا كل شيء، حتى المنظمات والجمعيات وفاعلي الخير لم يصلوا إلينا.
أروى، أصبحت وحيدة.. أب مفقود.. وأم مقعدة.. وحلم ضائع.. والمسؤولية كبيرة.